مسلمون خلف الذاكرة (6)
أبخازيا.. أرض الروح ولؤلؤة البحر الأسود
يسمّيها أهلها «أباد نمل»؛ أي: أرض الروح؛ لأنها تمثل قطعة منهم لا تنفك عن أرواحهم التي قدّموها دائما فداءً لها، ويسمّيها الروس الذين يسيطرون عليها فعلياً اليوم «لؤلؤة البحر الأسود»؛ لجمال طبيعتها وطيب هوائها وموقعها الفريد على البحر الأسود؛ ما جعلها منطقة جذب سياحي.
والأبخاز أو الأباظة هم الشعب الذي يقطنها وذاع صيته، وفرقته الحروب والمحن التي أنزلها به المستعمرون الطامعون من دول الجوار مثل جورجيا ثم روسيا، وتسبب ذلك تشريده في بلاد شتى؛ فكوّن فيها عائلات يشار إليها بالبنان، وأبرزهم عائلة «الأباظة» في مصر؛ تلك العائلة المشهورة بالانخراط في السياسة والتجارة والأدب معاً، مشاركة بذلك في امتلاك مفاتيح إدارة الحياة؛ سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
بداية الظهور وعلاقتهم بالدين
والعلاقة بين الأرض والشعب تضرب بجذورها إلى ما قبل التاريخ، فقد كان الأبخاز -وفق علماء التاريخ- هم أول من سكن هذه الأرض في القرن الخامس قبل الميلاد؛ ولذلك تسمت باسمهم، ومنذ ذلك التاريخ تتابعت على بلادهم الغزوات الاستعمارية وقاومها ذلك الشعب صانعاً ملاحم بطولية متتابعة؛ بما ينبئ عن ارتباط هذا الشعب بأرضه ارتباطاً روحياً وتاريخياً، وقدم في سبيل ذلك تضحيات كبيرة.
وفي القرن السادس الميلادي (عام 533م)، كانت المسيحية ديانة أهلها الرسمية، بعد أن غزاها الرومان ثم البيزنطيون، ثم عرفت الإسلام عندما وصلها في نهاية القرن السابع الميلادي، وترسخت جذوره عندما كانت الدولة العثمانية في أوج قوتها.
أبخازيا عرفت الإسلام في نهاية القرن السابع الميلادي وترسخت جذوره عندما كانت الدولة العثمانية في أوج قوتها
وظلت أبخازيا هكذا حتى منتصف القرن السادس عشر الميلادي عندما ضمتها دولة الخلافة الإسلامية ضمن فتوحاتها لمنطقتي آسيا الوسطي والبلقان، وانتشر الإسلام فيها بين كل الطبقات، حيث دخل الناس في دين الله أفواجاً، وظلّت الدولة الإسلامية قائمة فيها حتى أُصيبت الدولة العثمانية بالضعف والتفكك في بداية القرن العشرين، وتم تقسّيم أملاكها بين الطامعين من قوى الاستعمار.
نكبة العهد الشيوعي
وفي العهد الشيوعي الملحد (1922 – 1991م)، خضع الأبخاز في ثلاثينيات القرن العشرين، كغيرهم من الشعوب المسلمة في الأراضي والدول التي ضمها وحكمها الاتحاد السوفييتي، خضعوا لسياسات تفتيت الأوطان وتمزيق الشعوب المسلمة عبر التهجير القسري والنفي والتوطين في أراض أخرى غير وطنهم، وسط حملات من التنكيل المتواصلة التي مارسها جوزيف ستالين، أحد عتاة الاتحاد السوفييتي.
وهو ما أدى إلى هدم خريطة أبخازيا الديمغرافية بعد تمزيق شعبها المسلم وتشتيته وإعادة تشكيله من جديد ليصبح أقلية مهيضة الجناح، منقوصة الحقوق بعد أن كان أغلبية وسيداً على أرضه، وهو ما حدث في باقي الجمهوريات الإسلامية السوفييتية، ومثلما يحاول الصهاينة تحقيقه اليوم في غزة بدعم من الاستعمار الأمريكي.
فقد دفعت الحكومة المركزية الشيوعية بأعداد كبيرة من الروس والأرمن والجورجيين إلى أبخازيا ليحلوا محل مَن تم نفيهم خارج أبخازيا من السكان الأصليين المسلمين، حتى صار المسلمون أقلية في بلادهم بعد أن كانوا الكثرة الغالبة، فعلى سبيل المثال: كان الأبخاز يمثلون 85% من السكان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، لكنهم صاروا يشكّلون 17% فقط، مقابل 43% من الجورجيين، و16% من الروس، وبقية النسبة من أعراق وجنسيات أخرى.
وهكذا تقلص تعداد الأبخاز، فأصبح مائة ألف نسمة فقط، وفق إحصاءات جورجيا، وباتوا يعيشون وسط غابة من الجنسيات الأخري، تتوزع خريطتهم السكانية التقريبية كالتالي:
- 100 ألف من الأباظة الأبخاز.
- 293 ألفاً من الجورجيين.
- 76 ألفاً من الأرمن.
- 75 ألفاً من الروس.
- 15 ألفاً من الأروام.
- 18 ألفاً من الأتراك.
- 2000 من الروس البيض.
- 1500 من اليهود.
- 1100 تتري.
- 11 ألفاً من الأوكرانيين.
- 5 آلاف من قوميات أخرى.
فقد شتت النظام الشيوعي معظم الشعب الأبخازي المسلم إلى سيبيريا في شمال الاتحاد السوفييتي وإلى مصر والأردن وتركيا وسورية، ويكفي أن نعلم أنه يعيش منهم في تركيا وحدها أكثر من 300 ألف أبخازي.
إحراق الأرشيف الوطني ومعهد الأبحاث
وقد ركّزت حملة التشتيت والتذويب للشعب الأبخازي المسلم على المثقفين، بصفة خاصة؛ لأنهم يمثلون عقل الشعب وذاكرته التي تحمل قضيته وتعبر عنها وتشكل إرادته وتقوده إلى النضال من أجل الاستقلال.
وإمعاناً في طمس الهوية الإسلامية واندثار التاريخ الحقيقي، قامت جورجيا بإحراق الأرشيف الوطني، ودار المتحف الوطني، ومعهد الأبحاث العلمية واللغوية في محاولة لقطع جذور هذا الشعب المسلم بتاريخه الحقيقي.
النظام الشيوعي شتت معظم الأبخاز المسلمين إلى سيبيريا شمال الاتحاد السوفييتي ومصر والأردن وتركيا وسورية
من جهة أخرى، وفي عام 1911م، تحالفت جورجيا مع روسيا لممارسة ضغوط شديدة على أبخازيا للموافقة على تشكيل اتحاد فيدرالي مع جورجيا، وفي عام 1921م؛ أي بعد 4 سنوات من قيام الثورة البلشفية الشيوعية، قرر الدكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين (الجورجي الأصل) بمساعدة وزير داخليته بيريا ضم أبخازيا إلى جورجيا عنوة وعلى غير رغبة من أهلها، وكانت الشيوعية الصاعدة في ذلك الوقت في أوج قوتها، وأخذ قادة الاتحاد السوفييتي ينفذون مخططهم لتغيير هوية الجمهوريات الإسلامية الكبيرة بزرع الشيوعية بين شعوبها، والعمل بإصرار على محو هويتهم، وفي الوقت نفسه قامت بتفتيت الكتل السكانية المسلمة الكبيرة وتوزيعها في أماكن متفرقة متباعدة، وتم إلحاق الكيانات المسلمة الصغيرة مثل أبخازيا وغيرها بالدول الكبيرة ليتم تذويبها ومحو هويتها.
وقد صب كل ذلك في محو الوجود الإسلامي من هذه المنطقة، وقد نجح ذلك المخطط في بعض المناطق ولكنه فشل في مناطق أخرى.
وفي إطار هذا المخطط، كان نصيب أبخازيا الإلحاق بجورجيا لتضيف إليها مساحة جديدة مع إقليمي أوسيتيا الجنوبية ووادجاريا اللذين تتكون منهما الأراضي الجورجية.
رفض الاستسلام والإصرار على الاستقلال
لكن بالرغم من كل ذلك، لم يستسلم الأبخاز للتفريط في هويتهم أو دولتهم، ولم ييأسوا من الدفاع عن بقائها حيّة على خارطة الكون وحيّة على المسرح السياسي؛ فقاوموا الضم إلى جورجيا، ورفضوا الاحتلال الجورجي، وطالبوا بالاستقلال التام، وقد كلفهم ذلك الكثير، فواجه قادتهم السجن والنفي والقتل في سجون سيبيريا على أيدي القوات السوفييتية، خاصة في عهد ستالين (صاحب الحملات الأشد قسوة ضد المسلمين في الجمهوريات الإسلامية عموماً).
وفي عهد خروشوف هبَّ المسلمون الأبخاز مرة أخرى للمطالبة بحقهم في الاستقلال، لكن السلطات السوفييتية ردت عليهم بحملة أكثر وحشية حتى قضت على حركتهم.
وهكذا قوبلت أي تحركات للأبخاز على امتداد 66 عاماً (1926 - 1992م) للمطالبة بالاستقلال بالقمع الوحشي، كما قوبلت أي مطالبة بالحقوق المشروعة بالرفض التام والتهديد بالانتقام.
وتعد الحرب التي شنتها جورجيا على أبخازيا بتحريض ودعم من الاتحاد السوفييتي بين عامي 1992 – 1993م من أعنف الحروب التي استهدفت أبخازيا، وتم خلالها تهجير موجات جديدة ممن تبقى من الشعب الأبخازي، وطالت أكثر من نصف السكان الذين كان يقدر عددهم عام 1989م بـ 525061 نسمة، وتناقص هذا العدد حتى بلغ أقل من ربع مليون نسمة، وبات وضع المسلمين في الخريطة السكانية في أدنى مستوياته وتحولوا إلى أقلية، فوفقاً لمسح اجتماعي تم عام 2003م يعتبر 16% من سكان البلاد أنفسهم مسلمين، ووفقاً لتعداد عام 2011م، عرّف 10% منهم أنفسهم كمسلمين! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
في المقال القادم، إن شاء الله:
كيف انتصرت أبخازيا الدولة الصغيرة على جورجيا؟
وماذا عن الوثنية الجديدة إلى أبخازيا؟