المواجهة بين النسوية الإسلامية والذكورية المتأسلمة

لكل عصر قضاياه التي تشغل بال المثقفين
والساسة والخاصة، ويكون لهذه القضايا تأثيراتها المهمة والعميقة على العوام.
فمثلاً: كانت قضية خلق القرآن قضية هامة
تبنتها الدولة العباسية بإيعاز من بعض كبارها، وابتلت العلماء وفتنتهم، فكانت
المحنة المشهورة.
ومن القضايا الهامة والخطيرة في عصرنا
قضايا الخلافة والحكم، والجهاد، والشورى، والمرأة... إلخ.
وقضايا المرأة كانت محل لغط ونقاش وأخذ
ورد واتهامات متبادلة بين الأطراف، وهذه القضايا وأخواتها برزت في عهود الاستعمار،
والتخلف الحضاري للأمة، وزمن الاستضعاف.
وقد حمل لواء هذه القضية دعاة العلمانية
ورواد التغريب، والذين حاولوا الثورة على العادات المستقرة والتقاليد الراسخة
النابعة من الدين في أحايين، ومن طبائع الشعوب وأعرافها في أحايين أخرى.
وكان العنوان البرَّاق هو: "تحرير
المرأة"؛ حيث رأوا أنها أسيرة لعادات ظالمة وأعراف قاسية سلبتها حقوقها،
ولأفهام منحرفة فهمت النصوص الشرعية فهمًا معوجًّا.
تحرير المرأة
كانت المواجهة بين فئتين: فئة التغريبيين
من جهة وبين المحافظين والمتدينين من جهة أخرى.
فكتاب "تحرير المرأة" لقاسم
أمين قام بالرد عليه -مثلاً- رجل الاقتصاد المصري طلعت حرب في كتابه: "تربية
المرأة والحجاب"، وكذلك محمد حسنين البولاقي في كتابه: "أنيس الجليس في
التحذير مما في تحرير المرأة من التلبيس"، ومختار بن مؤيد باشا العظمي في
كتابه: "فصل الخطاب أو تفليس إبليس من تحرير المرأة ورفع الحجاب".
واستمرت المواجهة على هذه الشاكلة بعد
ظهور الحركات والجماعات الإسلامية عقودًا طويلة.
ثم حدث أمر جديد ألا وهو انقسام الفئة
المتدينة فيما بينها حول قضايا المرأة؛ فمن ينزع للأفكار التحررية، ومن يزداد
تمسكه بالتقاليد والعادات المتوارثة.
وعندما زادت المواجهة بين طرفي المتدينين
أو ما يسمى بـ: الإسلاميين، بدأت مرحلة التنابز بينهما؛ فأصبح هناك ما أُطلق عليه:
"النسوية الإسلامية"، وهن نساء إسلاميات يرى الفريق المختلف معهن أنهن
تشربن العلمانية في أفكارهن، وأنهن تسترن بستار الإسلام، وأنهن لا يختلفن عن
العلمانيات إلا في الحجاب الموضوع على رؤوسهن.
وما كان من هؤلاء النسوة إلا أن أطلقن
على المخالفين لهن من الرجال: "الذكورية المتأسلمة"، ويرين أن هؤلاء
الرجال جامدون على تقاليد بالية تحرم المرأة من أبسط حقوقها، وتقوم بإرهاب المرأة
والسيطرة عليها بنصوص شرعية مجتزأة من سياقها، أو غير موضوعة في إطار جامع للنصوص
للخروج بحكم شرعي صحيح.
نصوص شرعية
كلا الطرفين يستخدمان النصوص الشرعية
للتأكيد على مواقفهم ورؤيتهم، فطرف النسوية يرى أن النصوص تجعل لهن حقوقًا يجب
انتزاعها للتحرر من ربقة التقاليد المجحفة، وطرف الذكورية يرى أن النصوص تجعل لهم
الطاعة المطلقة والسيطرة اللامحدودة والأفضلية.
والعجيب في الأمر أن طرف النسوية هذا قد
يؤمن به الكثيرات من المحافظات والمتدينات، وكذلك رجال ينصرون تلك الرؤية، وطرف
الذكورية هذا قد تؤيده كذلك نساء متدينات وأخريات غير متدينات يرين أن الرجال على
حق فيما يطلبونه من النساء.
وكل طرف أصبح يرى أنه مظلوم وأنه مهضوم
الحق، وأن الطرف الآخر يريد السيطرة، ويعمل على قهر الطرف الآخر، ولذلك فهو يبحث
عن حقوقه الشرعية والإنسانية ويؤكِّد عليها، ويظن في قرارة نفسه أنه أدى ما عليه
من واجبات كاملة غير منقوصة، لذلك يبحث عن حقوقه كاملة غير منقوصة.
وطرف النسوية ينطلق من فكرة المساواة في
الحقوق سواء الشرعية أو الإنسانية لقوله تعالى: (وَلَهُنَّ
مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 228).
أما طرف الذكورية فينطلق من الأفضلية
الممنوحة له من القوامة الشرعية في قوله تعالى: (وَلِلرِّجَالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة: 228).
والعجيب أنها آية واحدة؛ قال تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ
دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:
228).
وكل طرف يرى أن منهجه ورؤيته هو المنهج
السليم القويم المتزن المتفق مع الشرع والطبع، وكل طرف يملك جزءًا من الحقيقة
ويحاول معالجة مشكلة يراها رأي العين.
فمثلاً: طرف النسوية يرى أن بعض الفقهاء
تجنوا على المرأة؛ فقد أورد القرطبي أن رسول الله ﷺ قال: "لا تسكنوا نساءكم
الغرف، ولا تعلموهن الكتابة"، ثم قال: "قال علماؤنا: وإنما حذرهم النبي ﷺ
ذلك؛ لأن في إسكانهن الغرف تطلعًا إلى الرجل، وليس في ذلك تحصين لهن ولا تستر.
وذلك أنهن لا يملكن أنفسهن حتى يشرفن على
الرجل، فتحدث الفتنة والبلاء، فحذرهم أن يجعلوا لهن غرفًا ذريعة إلى الفتنة، وهو
كما قال رسول الله ﷺ: "ليس للنساء خير لهن من ألا يراهن الرجال، ولا يرين
الرجال".
وذلك أنها خلقت من الرجل، فنهمتها في
الرجل، والرجل خلقت فيه الشهوة، وجعلت سكنًا له، فغير مأمون كل واحد منهما في
صاحبه.
وكذلك تعليم الكتابة ربما كانت سببًا
للفتنة، وذلك إذا علمت الكتابة كتبت إلى من تهوى، والكتابة عين من العيون، بها
يبصر الشاهد الغائب، والخط هو آثار يده، وفي ذلك تعبير عن الضمير بما لا ينطلق به
اللسان، فهو أبلغ من اللسان، فأحب رسول الله ﷺ أن ينقطع عنهن أسباب الفتنة،
تحصينًا لهن، وطهارة لقلوبهن"(1).
وطرف الذكورية يرى أنهن يتبعن أهواءهن
وينتقين من الشرع ما يوافق أهواءهن، ولم يجعلن أهواءهن تبعًا لما جاء به الشرع،
وأنهن أصبحن مثلهن مثل العلمانيات والمتحررات.
إلى جانب أن الواقع يشهد خرابًا في
البيوت بكثرة الطلاق ونشوز النساء على رجالهن، وتركهن للطاعة وحُسن التبعل،
والانشغال بالعمل وإثبات الذات عن تأدية الحقوق الزوجية وتربية الأولاد.
وللخروج من تلك المواجهة يجب إبعاد الهوى
في انتقائية النصوص الشرعية، والذي يعتبر عاملاً من عوامل جسر الهوة بين الطرفين.
وكذلك يعد وجود الحكماء الذين يعرفون
النصوص ويفقهونها، ويعلمون الواقع ويفهمونه أداة من أدوات رأب الصدع بين الطرفين.
وإن ظلت المواجهة بينهما لاقتناص الحقوق
دون أن يرافقها تأدية للواجبات، فالهوة ستتسع، والأزمة ستزيد، والمجتمع سيتفسخ،
والأولاد هم من يدفعون الثمن، وستتأخر نهضة الأمة.
***************************************
(1) تفسير القرطبي، (20/121-122).