الثقافة الإسلامية.. أهميتها ودورها التاريخي

تدور معاني الثقافة حول الملاءة العقلية والثراء الأخلاقي؛ بما يشكله من
عادات وتقاليد، والسلوك العملي الذي يعطي القيم المعيارية للإنسان، وبقدر تمازج
هذه العناصر واتساقها يكون التميز الثقافي لحضارة ما، وقدرتها على إنتاج عطائها
المدني والعملي الخاص بها، ومن جماع الجانبين؛ الثقافة والمدنية يكون الطابع
الحضاري للأمة.
إن الناظر في الثقافة الإسلامية منذ ظهورها مع مطلع الرسالة يستيقن ذلك
الاتساق بين مكوناتها، وانبثاقها من معين واحد؛ هو التوحيد الخالص الذي يحكم رؤية
أهله في الماضي والحاضر والمستقبل، ونظرتهم إلى الكون والحياة والخالق والخلق؛ وبذلك
ينتفي أي تنافر بين العقيدة والتشريع والعبادة والسلوك، فالجميع يتشكل في معين
واحد، وينطلق نحو غاية واحدة، عبر التاريخ الممتد.
ثقافة المسلمين والشعوب
المفتوحة ظلت تتلاقح لتخرج ثقافة تحمل من المشترك الإنساني ما لا يتصادم مع عقائد
الإسلام
وقد غضب الله تعالى على أقوام انفصلت أعمالهم عن علومهم ولوازم معتقداتهم،
فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ {2} كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا
مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف)، وقال بعض أسلافنا: «العلم
يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل»، والعلم والعمل مرتبطان بالنوايا والمقاصد،
فلا عمل إلا بنية؛ «إنما الأعمال بالنيات..»، ولا نية إلا بإخلاص معتقد؛ (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف: 110).
رسالية الثقافة الإسلامية
قال الله تعالى في وضوح الغاية ورسالية الهدف: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 60)، وقال: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110)، وهو أمر شديد الجلاء في حياة أوائل هذه الأمة، كما عبر
عنه ربعي بن عامر في خطابه لرستم قائد الفرس: «إن الله ابتعثنا لتخرج من شاء من
عبادة العباد إلى عبادة رب العباد..».
ولقد شرَّق المسلمون وغرَّبوا بهذه الرسالة، وهم يحملون تلك الثقافة،
فمثَّلت هداية الخلق هدفهم، وحددت معالم مسيرتهم، فلم يكن قصد المثقف المسلم
الرائد في صدره الأول إقصاء ثقافة الآخر، وإعدام هويته، بل تحريرها من أدران
الشرك، وإرشادها إلى عوالم الحق، والسير بها في أفق إنساني أرحب من حدود الأرض،
وأسمى من رغائب النفس، وشهوات البدن؛ فتجاورت عقيدة المسلمين وثقافتهم مع عقائد
الآخرين وثقافاتهم، وظل التدافع السلمي يسير وفق قوانينه، فكان البقاء للأصلح،
وكان الأصلح هو الأقوى، وكان الأقوى هو الأعدل والأحكم.
وهذه إحدى مفاخر الثقافة الإسلامية على مدار التاريخ في عصور زهوها، إذ لم
ترتض أن تفرض نفسها بقوة الواقع وواقع القوة، وسلطان السياسة الغالبة الفاتحة، لقد
ظلت ثقافة المسلمين وثقافات الشعوب المفتوحة تتجاور وتتلاقح وتتعايش وتتفاعل لتخرج
لنا ثقافة تحمل من المشترك الإنساني ما لا يتصادم مع عقائد الإسلام، ويعبر عن
عولمة ثقافية عادلة وهادية.
الثقافة الإسلامية لم
تنغلق على دعاوى التخصص الضيق بل قصدت إلى الموسوعية الرحبة من علوم الشريعة
والحياة معاً
نقول ذلك بالرغم من شواهد تاريخية تحكي أقوال بعض المتعصبين لدياناتهم أو
قومياتهم، حين ضجوا بالشكوى من مسارعة أقوامهم وعلمائهم إلى تعلم علوم العرب،
واتباع عوائدهم في الحياة، من ذلك شكوى القسيس القرطبي ألفارو من شبان النصارى في
الأندلس، إذ يقول: «لقد نسي المسيحيون لغتهم، ولا يكاد يوجد منهم واحد في الألف
قادر على إنشاء رسالة إلى صديق بلاتينية مستقيمة! ولكن إذا استدعى الأمر كتابة
العربية فكم منهم من يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من
الرشاقة! بل لقد يقرضون من الشعر ما يفوق في صحة نظمه شعر العرب أنفسهم»(1).
ثقافة إنسانية
بل إن الشعوب المفتوحة لم يطل بها العهد حتى تشارك في تيار الثقافة
الإسلامية، فبرز البخاري، ومسلم، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، وأبو داود،
والبيهقي.. وآخرون من علماء الحديث، وكان ابن جريج، وأبو حنيفة، والليث بن سعد،
والطبري، والغزالي، وأبو إسحق الشيرازي.. وغيرهم في الفقه، وأمثالهم في التفسير
والعقائد والتاريخ وغيره.
اتسعت الثقافة الإسلامية لترجمات اليونان والفرس والهنود وغيرهم، وشجع
خلفاء المسلمين تلك الحركة الزاخرة من الترجمة، والإقبال على عصارات الفكر في
حضارات تلك الشعوب، لم تكن الثقافة الإسلامية تخشى ثقافات الآخر، بل كانت واثقة
بصوابية منطقها ومنطلقها، وحكمة غايتها ومقصدها.
ولم تنغلق الثقافة الإسلامية في رحابتها على دعاوى التخصص الضيق، بل قصدت
إلى الموسوعية الرحبة، وكان العقل الإسلامي مقبلاً على علوم الشريعة والحياة معاً،
كان العالم بالتفسير عالماً بالعقيدة والحديث النبوي، والفقه، والتاريخ،
والجغرافيا، والسياسة، والملل والنحل، والحكمة والتصوف وغيرها، ولم يحل عظم ذلك
دون التجوال حول علوم المادة والحياة.
كان أئمة المذاهب الفقهية الكبرى مثقفين كباراً، وكانوا علماء بالحديث
والتفسير والتاريخ، وكانت لهم مشاركاتهم السياسية، وجهادهم القولي والعملي، يصدق
ذلك على أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، كما يصدق على الأوزاعي، وابن سعد،
وابن حزم، وفي العصور التالية على ابن تيمية، وابن القيم، وابن حجر، وابن خلدون..
وسواهم.
إن هذا لا ينفي التخصص العلمي بالكلية، لكنه كان يعني غلبة الجانب الأبرز
عند المثقف المسلم بجوار جوانب أخرى تتصالح معه، وتفيد منه، كبروز وصف المحدث عند
البخاري بالرغم من نبوغه الفقهي، وجانب التاريخ عند ابن خلدون بجوار كونه عالم
اجتماع، وقاضياً مالكياً.
ثقافة تخالط الحياة
لم يدر في خلد المثقف المسلم في عصور القوة أن ينعزل عن تيار الحياة
الزاخر، بل عن صناعة الحياة نفسها، وكانت رهبانيتهم طلباً للعلم، وجهاداً في
الدين، ومخالطة للناس، ونيابة عنهم، وجرأة في الحق ودفاعاً من أجله.
ولما دار الزمان دورته، وحل بالمسلمين الضعف بعد القوة؛ كان أبرز معالم ذلك
الوهن ضمور الثقافة، وركود تيارها، وجمودها عن ملاحقة تقدم العصر، وعجزها عن
الإجابة عن أسئلة الحاضر، وتراجع دور المثقف، وقيمته في السلم الاجتماعي للأمة،
وتقدم الرويبضة، ضمن حال من الضعف الحضاري الشامل.
الصراع الثقافي غدا
مفروضاً على عالمنا المعاصر وهو جزء من صراع أكبر لا نجاة منه إلا بالعودة إلى
الهوية الإسلامية
وخلا المجال للغزو الفكري الغربي، والعولمة الطاغية التي تقصد محو الخصوصية
الثقافية للأمم المخالفة -وبخاصة الأمة الإسلامية بما تمتلكه من رصيد ممانعة
وصمود- وصبغ العالم بصبغة واحدة، وإخضاعه للمستعمر القادم متسلحاً بالقوة الغاشمة،
والناعمة، والهيمنة المؤسسية الأممية التي انقادت إليه.
ومن أسف أن تلك الهجمة الضارية قد استولت على النخب القائدة في عالمنا
الإسلامي، في فضاءات السياسة والفكر معاً، ووجدنا من يقول: إن سبيل النهضة أن «نسـير
سيرة الأوروبيـين، ونسلك طريقهم، لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة؛
خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يُحب منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب.. من
زعم غير ذلك فهو خادع أو مخدوع»(2).
إن الصراع الثقافي غدا مفروضاً على عالمنا، وهو جزء من صراع أكبر، لا نجاة
منه إلا بالعودة إلى الهوية الإسلامية العاصمة، والشروع في إقلاع حضاري جديد،
يستهدي إلى مواطن الأخذ والترك من الآخر، ويعتز بمنابع الذات الحضارية، ويدرك أن
التدافع سُنة ماضية لا يصمد فيها الضعفاء!
_____________________
(1) جرونباوم: حضارة الإسلام، ترجمة عبدالعزيز توفيق، الهيئة المصرية
العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 1997م، ص81-82.
(2) طه حسين: مستقبل الثقافة في مصر، دار المعارف (د.ت،) ط2، ص39.