من تحديات المسيرة الدعوية
الدعاة.. بين الواقع والطموح
إن الدعوة إلى
الله أشرف مقامات العبد وأجلّها وأفضلها، فالداعية يحمل طموحاً عظيماً مباركاً في
مجتمعه، فهو صاحب رسالة واضحة المعالم في مضمونها وطريقتها، قال الله تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125).
وطموح الداعية
يحمل في طياته تحديات عديدة، أبرزها الانجراف فيما اعتاد عليه في مجتمعه، فالتحدي
الأكبر الذي يواجه الدعاة الشباب يكمن في الذوبان في المجتمع حتى يفقد تأثيره فيمن
حوله، ويأخذ هذا الذوبان أشكالاً كثيرة، منها: الذوبان في السلوكيات السائدة في
المجتمع التي تتنافى مع أخلاق الدعاة، وكذلك الذوبان في التصورات والأفكار، ففي
عصر الفضاء المفتوح والرقمنة أصبحنا نتلقى الأفكار دون النظر في عواقبها ومقاصدها
ومن دون غربلتها واختيار النافع منها.
إن هاجس الذوبان
يستلزم أن يكون للداعية روح إيمانية عالية تكون له حصناً منيعاً، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى
وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ) (محمد: 17)، ولا بد أن يتمتع الداعية بقوة الشخصية التي ترفض
التنازلات ولا تنقاد للأفعال الخاطئة تحت دعوى الإحراج، فلا تراه يقدم رضا المجتمع
على رضا الله ورسوله، ولا يكون ذلك إلا بخبيئة العمل الصالح التي عنده، والعلم
الشرعي والثقافة الواسعة، ومهارات الإدارة والتعامل التي تمكنه بتوفيق من الله نحو
التقدم إلى هدفه بثقة واتزان، فهو كالطبيب الذي يقدم العلاج ويحرص على ألا يُصاب
بالمرض نفسه.
ولذلك، فإن طموح
الداعية في الإصلاح يصطدم بإشكاليات داخلية قد تجعله جزءاً من المشكلة، فالواقع
يشهد ضعفاً في التحصيل العلمي التأصيلي لدى بعض المتصدرين للدعوة، ممن يمتلكون
قدرة على التأثير العاطفي لكن ينقصهم الزاد العلمي لضبط مصطلحاتهم وأحكامهم، وقد
يغتر الداعية بكثرة متابعيه وجمهوره، فيستقلل أهمية طلب العلم من العلماء
والمتخصصين، فتراه يصاب بشهوة الشهرة وحب الظهور الذي يقصم الظهور، حيث ينشغل
الداعية بتطلب المزيد من المشتركين والمتابعين، ويقيس نجاحه بناء على عدد
المعجبين، بينما المقياس الحقيقي للنجاح هو صدق الإخلاص ومطابقة السُّنة.
والمتأمل سيجد،
كذلك، أن هناك فجوة بين التنظير والتطبيق في حياة بعض الدعاة، فقد يظهر الداعية
للناس بطلّة بهية، لكن عند التعامل معه عن قرب يظهر فيه غرائب في الأطباع كالكبر
والغرور والنرجسية.. وغيرها؛ ما قد يُحدث فتنة في دين من يعدّه قدوة، وفي خلل في
طريقة إدارة المؤسسات الدعوية التي يتولى الإشراف عليها.
فالانغماس في
حياة الدعوة المترفة وطلب الامتيازات له تأثير غير محمود على الأداء الدعوي، والدعاة
عليهم أن يبتعدوا عن تحويل الدعوة إلى «بزنس الدعوة»، أو مشروعات شخصية ومكاسب
مادية، حيث إن تملك قلوب الناس يكون بالزهد فيما بأيديهم، وقد جاء في حديث عمرو بن
العاص: «يا أيها الناسُ، كان نبيُّكم صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أزهدَ الناسِ في
الدنيا، وأصبحتُم أرغبَ الناسِ فيها».
ومن تحديات
المسيرة الدعوية في الواقع الدعوي الخطاب غير المتوازن، فعلى الدعاة الاعتراف
بالمشكلات الحقيقية والتعامل بواقعية مع حاجات الناس، وفي قضايا المجتمع الحساسة؛ كالمرأة،
فيجب تجنب الخطاب غير المدروس الذي يحمّل طرفاً بعينه (المرأة)، على سبيل المثال،
كل مشكلات الأمة، فالإصلاح الحقيقي ينطلق من معالجة الأصول والمسببات لا الاكتفاء
بمعالجة الأعراض، وعلى الدعاة تقديم البديل واقتراح الحلول لمشكلات الناس، بدلاً
من أن يُعرفوا بأنهم يقولون: «لا» دوماً، ويقفون وقفة المتوجس من كل جديد.
إن البيئات
الحاضنة للدعاة لا بد لروادها والمؤثرين فيها من مراجعة البنية الفكرية والثقافية
والتنظيمية والتربويّة لتلك البيئات، فتأثير البيئة الحاضنة لا يمكن إغفاله إذا
أردنا دعاة ناجحين ومؤثرين، فليس من المعقول أن تكون مكونات البيئة الحاضنة لجيل «z» أو الجيل
القادم «ألفا»، متشابهة مع مكونات جيل الطفرة السكانية بين عامي 1946 و1964م، فعدم
المراجعة لمكونات البيئة وتحديثها بما يتناسب مع المرحلة (من غير التنازل عن
الثوابت)، قد يكون أحد أسباب التشوهات التي نراها في طريقة تفكير وأداء بعض
الدعاة.