العناد الطبيعي عند الأبناء (3)
عندما يقول طفلك: «لا».. بداية بناء الشخصية
حين ينطق الطفل في عامه الثالث بكلمة " لا " ترتج أعصاب كثير من الآباء والأمهات، ويظنون أن الرفض
بذرة الشقاوة الأولى، أو جدار يعترض طاعتهم، غير أن الحقيقة التربوية تقول شيئا
مدهشا: إن هذه الــ " لا " بداية للوعي، وشرارة هوية تتكون، فالطفل لا
يعاند ليكسر هيبة والديه، بل ليُجرب صوته الداخلي لأول مرة، ولا يُصر ليتحدى، بل
ليقول للعالم: ها أنا ذا .. لي رأي ورغبة.
إن العناد الطبيعي ليس خصومة بين جيلين، بل هو رسالة ذاتية غير منطوقة تقول
: " امنحوني مساحة من الرأي لكي أساعد في بناء
ثقتي بنفسي"، وهكذا يصبح العناد ـ إذا أحسن المُرَبُون التعامل معه ـ بابا إلى الثقة، فوراء كل رفض صغير.. محاولة طفل لأن
يكتشف قوته، وإن الإسلام ليُعزز ويساند فكرة أن نبني طفلا قويا من الداخل والخارج، ليكون بعد ذلك رجلا قويا ثابتا لا تهزه
الرياح، ويُنفرنا الإسلام أن نبني إنسانا ضعيفا عاجزا، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ،
وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ"([1]).
1ـ العناد الطبيعي.. حين يبدأ
الطفل في اكتشاف نفسه.
العناد الطبيعي: سلوك يظهر عندما يبدأ الطفل في إدراك أنه
منفصل عن الآخرين، وأن لديه رغبات خاصة، وهذا الوعي الجديد يجعله يختبر حدود قدرته،
فيبدأ يعترض لا لأجل الاعتراض بل لاظهار شخصيته، ولكي يتعرف على مدى قبول الآخرين
لرأيه، يحاول مرة بعد المرة ليُثبت ذاته، ولكن للأسف
هنا نجد بعض الآباء والأمهات يقتلون محاولات اكتشاف الطفل لذاته من المهد،
فيتسلطون عليه، ويعاقبونه، ولا يزالون يعاقبونه حتى يخضع الطفل في النهاية، وينسى
ذاته، ويفقد ثقته بنفسه!! وإن لم تلتقطه عناية الله سيكون تأثير هذا
الأمر على هذا الطفل وخيما مدى الدهر.
ومن هنا يصرخ علماء النفس في أذن كل أب وأم أن: ساعدوا أبناءكم لاكتشاف ذواتهم، وساعدوهم
لكي يبنوا ثقتهم بأنفسهم، ولا تهدموا الثقة عندهم بكلماتكم المسمومة، ولا بالتسلط
المقيت، ولكن عليكم أن تُحسنوا التعامل معه، وتساعدوا في بناء شخصية قوية وراسخة،
بدلا من أن تكون شخصية ضعيفة وهشَّة.
2ـ لماذا يُصبح العناد ركيزة
في بناء الثقة بالنفس؟
أ ـ لأن الطفل يمارس حق
الاختيار:
الثقة بالنفس تبدأ من شعور الطفل بأن قراراته مقبولة لدى الوالدين، ووفقا
للأبحاث العلمية فإن منح الطفل مساحة الاختيار ـ حتى ولو كانت صغيرة ـ يُعزز شعوره بالقدرة الذاتية، ويساعده على بناء الثقة، والمقصود هنا بــ " حق الاختيار " ليس من منظور غربي منفلت، وإنما من منظور
عربي إسلامي ينظر للأمور أن لها حدودا وضوابطا، مصداقا لقول الله: " تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ " (سورة البقرة 229).
ب ـ لأن العناد يختبر به الطفل الحدود والضوابط
من حوله.
الطفل لا يبحث عن الصدام خاصة مع والديه، بل يبحث عن حدود واضحة ولكن غير
جارحة ولا متأرجحة، ويبحث عن نهاية الحدود والضوابط التي تحيط به، ويختبر بها قوة
مقاومته لهذه الضوابط، فعندما يجد الطفل والده هائا، ثابتا، قادرا على ضبط
انفعالاته، ولديه إمكانية التفاوض، يتعلم الطفل حينها نموذجا داخليا للثقة بالنفس "أنا وإن اختلفت معهم فلن أفقد حبهم"، وهذه واحدة من أعمق قواعد الثقة بالنفس عند
الأطفال.
ج ـ إن الإصرار يبني الإرادة.
إصرار الطفل على الشئ الذي يَصلح أن يفعله، وإعطائه الفرصة للتجربة، وتحمل
عقبات تجاربه، يُعلمه هذا أن يبني إرادة قوية وراسخة، ويبني في داخله عدم
الاستسلام بسهولة، وعدم الخنوع، فإن الطفل يبني إرادته حين يُسمح له أن يُعبر عن
رأيه، وأن يختار ما يحب، وهنا تنمو إرادته من التجارب الصغيرة.
فكل مرة يُصر فيها ويُصغي له والداه يشعر أن
صوته مسموع، وأن جهده معتبر، فيتشكل داخله يقين خفي في أعماق وجدانه " أنا أستطيع "، وهكذا تزداد ثقته بنفسه بهدوء.. من مساحات
الحرية الغير المطلقة والمدروسة، لا من الأوامر المتسلطة والصاخبة.
3ـ العناد الطبيعي ليس مشكلة .. المشكلة في
طريقة التعامل معه.
العناد الطبيعي ليس مشكلة في ذاته، لأنه يمكن أن يتحول إلى قوة إيجابية أو
يتحول إلى صِدامات مرهقة، والفرق يكمن في البيئة التربوية المحيطة بالطفل وكيفية
التعامل معه.
· البيئة التربوية التي تُنمي
الثقة بالنفس:
. تتجنب الصراخ والتقليل من شأن الطفل.
. تعطيه خيارات بدلا من الأوامر.
. توضح الحدود والقواعد بوضوح.
. تُشعره بأن رأيه مسموع.
·
البيئة التي
تُضعف الثقة بالنفس.
. تُفسر كل عناد على أنه وقاحة وتقمعه.
. تسخر من رأيه.
. تستخدم التهديد والعقاب.
. تجعل الطفل يخضع ويذل.
. تُفقد الطفل إرادته وعزيمته.
4 ـ كيف نُحول العناد الطبيعي إلى ثقة بالنفس؟؟
هناك خطوات تربوية لتحويل
العناد الطبيعي عند الأبناء إلى شعور داخلي لبناء الثقة بالنفس، ومن هذه الخطوات:
أ ـ اسمع الرفض قبل توجيه السلوك.
عندما يتفهم الطفل أنك سمعت
رأيه، تقل مقاومته بنسبة كبيرة، فتقول له مثلا: "أعرف أنك لا تريد ارتداء المعطف، وفهمتُ هذا..
لكن الجو قارس البرودة، وأريدك أن ترتديه لحمايتك وخوفا عليك".
ب ـ شاركه جزءا
من القرار.
فالطفل لا يريد السيطرة
الكاملة، يريد فقط أن يشعر بأنه شريك في الحياة، وله رأي، ويُؤخذ برأيه إن قال
شيئا صحيحا، فتقول له مثلا: " ترتدي المعطف الأسود أم الأزرق؟".
ج ـ لا تُجازف بفقدان علاقتك معه لأجل موقف عابر.
الغضب يزيد في العناد ويُعززه،
والهدوء يُقلل منه ويُحيّده، فالطفل يرث الثقة بالنفس حينما يرى أباه أمام عينه يتحكم
في انفعالاته، ولا يغضب، أما الأب الذي يغضب ولا يضبط انفعالاته تجد أن الأبناء
ينفرون منه، فالغضب نتائجه وخيمة، ولذلك لما جاء رجل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستنصحه، قال له النبي حينها: " لا تغضب " ([2])، ويا لها من نصيحة جليلة عظيمة، لأن الغضب يحمل في طياته الشر كله.
د ـ امدح فيه الشجاعة، وتجاهل العناد.
لا تقل لابنك: أنت عنيد، ولكن قل: أنت تحاول أن تعبر عن رأيك وهذا جميل، ولكن
عليك أن تعبر عن رأيك بطريقة صحيحة، وبهذا تنقل العناد من سلوك مزعج.. إلى قيمة
إيجابية.
العناد الطبيعي عند الأبناء (1)
العناد الطبيعي عند الأبناء (2)