حين تحتاج اللعبة إلى فتوى.. 5 إشكاليات فقهية في عالم الألعاب الإلكترونية

عزة مختار

18 نوفمبر 2025

75

كانت الألعاب يوماً مجرد أداة للتسلية يقضي فيها الشباب أوقات فراغهم، ولم تكن تستحوذ على أوقاتهم بهذا الشكل الذي يحدث اليوم، بعد أن تولت في عصر الخوارزميات والتواصل الاجتماعي والثقافة الوافدة إلى فضاء متكامل، تمارس على شبكة الإنترنت وتجمع العديد من الهويات والثقافات في غرف مشتركة كما يسمونها فيما بينهم، تقاطع فيها الاقتصاد بالثقافة، والتقنية بالهوية، واللعب بالحاجة للفتوى.

ومع اتساع انتشار تلك الألعاب عالمياً حيث تجاوزت أرباح صناعة الألعاب حاجز 200 مليار دولار سنوياً، بدأت الأسئلة الفقهية تخرج من نطاق الورق إلى شاشات الهاتف؛ هل تمثل الألعاب الإلكترونية لهواً مباحاً؟ أم أنها تسلل ناعم للقمار والعنف والوقت المهدور؟ وما حدود الفتوى في عصر يتحرك بسرعة الضوء؟

إنها أسئلة يفرضها الواقع، ويجب أن تجد جواباً عاجلاً حتى لا يقع الملايين من شباب المسلمين في القمار والميسر دون دراية، فضلاً عن إهدار الوقت والعمر فيما لا ينفع المسلمين، وفي السطور التالية نقدم 5 إشكالات نفهم من خلالها قضية الألعاب الإلكترونية، وما يحيط بها من لغط.

أولاً: إشكالية «القمار الرقمي» وتبدل صور الميسر:

نبدأ أولاً بمفهوم القمار: «فهو من القمر الذي يزاد تارة وينقص أخرى وسمي قماراً لأن كل واحد من المقامرين ممن يجوزان يذهب ماله إلى مال صاحبه ويجوز أن يستفيد من مال صاحبه فيجوز الازدياد والنقصان في كل واحد منهما فصار ذلك قماراً، وهو حرام بالنص»(1).

وأما الميسر، فكما قال الجوهري: «هو قمار العرب بالأزلام، وكل ما قومر به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء»(2)، وحقيقة الميسر واضحة أن الشخص يبذل المال وهو لا يدري هل يحصل على مقابل أو لا يحصل، والقمار والميسر محرم بنصوص القرآن والسُّنة، فيقول تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) (البقرة: 219)، ثم نزل قول الله تعالى بالتحريم القطعي: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {90} إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) (المائدة).

وأما في السُّنة النبوية، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعالَ أقامرك فليتصدق» (أخرجه البخاري، ومسلم)، قال الشوكاني: «فإن هذه الصدقة كفارة لذنب القمار فأفاد ذلك أنه حرام»(3)، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: «والقمار حرام باتفاق، والدعاء إلى فعله حرام»(4).

وأخطر ما يواجه الفقه الإسلامي في التعامل مع الألعاب الحديثة تغير مفهوم القمار نفسه، فالقمار في النصوص القديمة كان يتمثل في مقامرة مالية مباشرة، أما اليوم فقد أصبحت «الرهانات» الرقمية تدار عبر نقاط، أو أرصدة افتراضية، أو صناديق حظ تشترى بأموال حقيقية.

وقد أكدت اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية أن كل ما يتضمن المخاطرة المالية المجهولة يدخل في الميسر المحرم، حتى وإن اختلف الشكل(5)، وبهذا المفهوم، فإن هناك جملة من الألعاب الإلكترونية تدخل في نطاق القمار والميسر المحرمين تحريماً قاطعاً.

ثانياً: إشكالية الوقت والعبودية الرقمية:

ويجب أن يدرك الشباب والمربون والمهتمون بأمور الأمة وتغييرها والنهوض بها، أن الوقت هو الحياة، وهو ليس ملكاً لكل من أراد تضييعه في أمور ثانوية أو تافهة خاصة في الظرف الاستثنائي الذي تمر به الأمة، فمن منظور أخلاقي، يعد الوقت في التصور الإسلامي «رأسمال الإنسان»، يقول تعالى وهو يقسم بالوقت: (وَالْعَصْرِ {1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر)، وقال تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى {1} وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) (الليل)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبونٌ فيهما (يُفرِّطُ فيهما) كثيرٌ من الناس: الصحةُ والفراغ» (رواه البخاري).

وفي الألعاب الإلكترونية، حدّث عن ضياع الوقت ولا حرج، فلم يعد الأمر يتوقف عن تشغيل تلك البرامج ساعة في اليوم أو ساعتين، وإنما يمتد بهم الأمر لقضاء الساعات الطويلة دون توقف في اللعب وربما الشجار والتباغض فيما بينهم، غير السباب والتطاول ليصل إلى سب الوالدين والتلفظ بمفردات خادشة ولا ومنافية لجملة الأخلاق الإسلامية.

فوفق تقرير «PwC»، بلغ عدد اللاعبين في المملكة العربية السعودية حوالي 23.5 مليون لاعب؛ ما يعادل نحو 67% من السكان، وفي تحليل من «Mordor Intelligence» يشير إلى أن سوق الألعاب في منطقة الشرق الأوسط (بما في ذلك دول الخليج) قد بلغت قيمة حوالي 4.56 مليارات دولار أمريكي في عام 2024م، مع توقع ارتفاعها إلى نحو 9.57 مليارات دولار بحلول عام 2030م.

والإحصاءات في هذا الشأن لا تحصى، وتلك إشارة فقط لحجم ما ينفق فيما يهدر العمر خاصة في مراحل الشباب الذين هن مستقبل الأمة وأملها، وهنا نتجاوز السؤال الفقهي حدود التحليل والتحريم، ليصبح سؤالاً وجودياً حضارياً: هل بات الإنسان عبداً للخوارزميات التي تصنع متعته وتوجهه وسلوكه وهويته؟

ثالثاً: إشكالية العنف وتطبيع العدوان:

ومن أكثر ما يقلق المربين والفقهاء أن بعض الألعاب لا تنقل فقط صور العنف، بل تحوله إلى متعة مشروطة بالقتل والانتصار، وقد حذر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في أكثر من بيان من خطورة الألعاب التي تغرس العدوان أو الاستهتار بالحياة البشرية، واعتبر أن «اللعب الذي يؤدي إلى انحراف السلوك يدخل في باب التحريم إذا ظهرت مفسدته».

ومن أشهر هذه الألعاب التي استغرقت الشباب عدة سنوات، لعبة «بابجي»، وفق تقرير من «American Psychological Association (APA)»: أن هناك ارتباطاً صغيراً ولكنه ثابت بين لعب الألعاب العنيفة وزيادة في النتائج العدوانية (كالكلام العدواني أو الدفع) لدى الشباب خاصة بعد ظهور «بابجي»، وعن موسوعة «Encyclopædia Britannica» تذكر أن محتوى الألعاب العنيفة يعتبر عاملاً يمكن أن يزيد احتمال العنف لدى من لديهم ميول عدوانية مسبقاً، فالمشكلة هنا ليست في الصور وحدها، بل في تكرارها حتى يزول وقعها الأخلاقي، فيصبح القتل في اللعبة فعلاً عادياً، وتختفي من النفس حرارة الإثم.

رابعاً: إشكالية الهوية والرمزية الثقافية:

تسكن كثير من الألعاب التجارية رموزاً ثقافية ودينية تتسلل ببطء إلى وعي الجيل الجديد، فبعضها يستحضر شخصيات أسطورية أو طقوساً وثنية أو شعارات سياسية؛ ما يجعل الطفل المسلم يتفاعل مع رموز تتعارض مع عقيدته من حيث لا يشعر، وفي هذا السياق، يشير الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه «الحلال والحرام في الإسلام» إلى أن «التحريم لا يتعلق بالذات فقط، بل بالمآل»؛ أي أن ما يؤدي إلى طمس الهوية أو تبديد الوعي يدخل في دائرة التحذير الشرعي.

ومن أمثلة هذه الألعاب التي تؤثر بشكل مباشر على الهوية الثقافية للشباب العربي: الألعاب ذات المحتوى المهيمن، مثل سلسلة «Call of Duty»:

أثرها الثقافي:

  • صياغة خيال عسكري غربي يجعل اللاعب العربي داخل سردية لا تمثله.
  • الترويج لصورة «العدو الشرقي» في بعض الإصدارات.
  • بناء رموز بطولية غربية مقابل «آخر» غير مرئي ثقافياً.
  • الألعاب التي تعيد إنتاج نماذج حياة غربية مثل لعبة «The Sims».

أثرها على الهوية:

  • محاكاة الحياة الغربية كنموذج «افتراضي طبيعي» للأسرة والسكن والعمل.
  • تطبيع قيم لا تنتمي للبنية الرمزية العربية (العلاقات، أنماط السكن، الحريات الشخصية).
  • الألعاب التي تعيد تشكيل مفاهيم البطولة.
  • تقدم رؤية غربية للتاريخ والأنظمة الأخلاقية.
  • تصنع بطلاً يفسر العالم من منظور فلسفي واحد، وهكذا العشرات من الألعاب المستوردة التي تحمل هوية غربية تحاول فرض ثقافتها بصورة متعمدة، وتمثل نوعاً من أنواع الغزو الثقافي.

خامساً: إشكالية الفتوى في عالم سريع التبدل:

ربما الإشكال الأكبر أن الفتوى لم تعد تملك وقتها الكافي، فما بين دراسة الألعاب الموجودة على الساحة، ثم إصدار فتوى وتحليلها، تنتج الساحة الغربية عشرات الألعاب الجديدة التي يختلط فيها الحلال بالحرام في مساحة رقمية غير محدودة؛ لذلك أصبحت عملية التجديد الفقهي عملية لازمة في عصرنا هذا.

ومن اللازم كذلك وضع مجموعة من المعايير على يد علماء ثقات تذكرهم مؤسسات رسمية معترف بها من علماء الأمة مثل مؤسسة الأزهر الشريف، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وتعلن تلك المعايير ليعرفها المعنيون بشكل جيد، ولهذا فقد دعا مجمع الفقه الإسلامي الدولي إلى تأسيس لجان فقهية متخصصة في قضايا التقنية الحديثة، مؤكداً أن «الاجتهاد الجماعي أصبح ضرورة لا خياراً»(6).

إن قضية الألعاب الإلكترونية ليست معركة بين الفقه والتسلية، بل بين الوعي والفراغ وتضييع العمر، فالإسلام لا يحارب المتعة، بل يوجّهها نحو التوازن، يقول تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف: 32)، لكن أن تتحول المتعة إلى إدمان، واللهم إلى عادة، واللعبة إلى فتوى، يكون هناك شك معتبر، فيمن يتحكم في الآخر، نحن أم اللعبة؟




_________________

(1) البحر الرائق (8/ 554)، وحاشية ابن عابدين (6/ 403).

(2) الجامل لأحكام القرآن (3/ 53).

(3) السيل الجرار (4/ 380).

(4) فتح الباري (8/ 788).

(5) فتوى رقم (19355).

(6) كلمة ملقاة خلال الجلسة العلمية الأولى بالمؤتمر العالمي الرابع للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم الذي استضافته القاهرة بتاريخ 24 أكتوبر 2018م.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة