«تسريب الشفرة».. أبو بصير واحترام الاتفاقات الدولية

عبدالقادر وحيد

05 نوفمبر 2025

196

كما اشتهر بكنيته، التي غلبت على اسمه الحقيقي، وصار لا يعرف إلا بها، أيضاً غلب حسّه الحركي وفكّه للشفرات، وقراءته لما بين السطور على غيره، وتمتع بحسٍّ عالٍ في إدارة الأزمات.

إنه الصحابي الذكي الأريب أبو بصير، واسمه عتبة بن أَسِيد الثقفي، الذي كان لديه من الحنكة والذكاء ما مكنّه من تخليص نفسه، دون أن يفسد اتفاقاً أو معاهدة(1).

لقد وظّف الصحابي أبو بصير معطيات بيئته وما يمتلكه من إمكانيات تتماشى مع أعراف وتقاليد مجتمعه، في أن يكون مصدراً ملهماً في إدارة الأزمات دون الإخلال بالاتفاقيات أو المعاهدات أو الأعراف الدولية.

ضبط النفس وإبرام الاتفاقيات

كلنا نتذكر ولا يخفى على أحد ما حدث في «صلح الحديبية» والإجحاف في كتابة الشروط، وكأنها وضعت لأجل الإخلال بها، ومدى قدرة تحمل النبي صلى الله عليه وسلم لصلف قريش وكبرها، الذي تمثل في مسار فريق التفاوض.

هذا المسار من الكبر والغطرسة، جعل واحداً من الصحابة في قامة الفاروق عمر أن يقول مقولته الشهيرة «ما شككت في ديني» إلا يوم «الحديبية»! بالرغم أن المفاوض هو النبي صلى الله عليه وسلم، وليس شخصاً عادياً أو موضع اجتهادات بشرية خاطئة(2).

جاءت ذروة هذا الصلف والتعنت، الذي وصل فيه فريق التفاوض، مع مرحلة في غاية التعقيد، وذلك عند إبرام عقد وبنود الصلح التي كان منها كما هو معلوم أن يرد النبي صلى الله عليه وسلم من جاء مؤمناً من قريش ومن ارتدّ وذهب إلى قريش فلا تردّه.

وتزامناً مع الشروط المزلزلة، جاء أبو جندل، وهو ابن رئيس فريق التفاوض سهيل بن عمرو، مؤمناً مهاجراً، وعليه علامات التعذيب وألقى بنفسه أثناء كتابة المعاهدة ليتأزم الموقف إلى صورة غير مسبوقة، ويضاف بركان جديد إلى زلزال الشروط المجحف(3).

لم يكن أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو رئيس الدولة وصاحب الشريعة معاً، إلا الالتزام ببنود الاتفاقية، وتم رده إلى قريش؛ ما دفع الفاروق عمر إلى مخاطبة ابن رئيس فريق التفاوض بـ«الشفرة»، لأجل أن يخلّص نفسه.

وعلى الرغم من أنّ أبا بصير فهم، فإنه لم يتحرك لأن والده كان كبير المفاوضين، وذهب معهم واستطاع لاحقاً أن يخلّص نفسه.

أبو بصير والذكاء الاجتماعي

عقب الشروط المجحفة والرجوع إلى المدينة، جاء أبو بصير مسلماً فردّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش، وفي الطريق كان معه رجلان، حيث احتال أبو بصير على الرجلين، واستطاع أن يأخذ سلاح أحدهما ويضربه حتى الموت.

أما الآخر، فأصابه الهلع وعاد للمدينة مهرولاً، حتى كان الحصا يتطاير من تحت قدميه، وأبو بصير خلفه، وألقى بنفسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه على هذه الحالة قال: «إن هذا رأى فزعاً»(4).

وعندما ظهر أبو بصير خلف الرجل ملاحقاً له، قال صلى الله عليه وسلم مقولته الشهيرة لأبي بصير، التي ظاهرها إنكار وباطنها «شفرة» فهمها أبو بصير الأريب، حيث قال له: «ويل أمه مِسْعَر حرب (مشعل الحرب) لو كان معه رجال».

فعلم أبو بصير أن النبي صلى الله عليه وسلم سيرده لأجل فعلته، ولكنه تركه وذهب إلى مكان بين مكة والمدينة يعرف بـ«سيف البحر».

من جانبه، قام الفاروق عمر بتسريب «الشفرة» التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم «لو كان معه رجال»، لكل أعضاء المستضعفين في مكة، فجعل كل واحد منهم يتسلل لأبي بصير، في المكان الذي اختاره مسبقاً بعناية وذكاء اجتماعي، وبلغوا العشرات وقطعوا الطريق مجدداً على تجارة قريش، والنبي صلى الله عليه وسلم كرجل دولة بريء من ذلك؛ لأنه لم يأمر به(5).

قريش نتيجة كبرها وصلفها وقعت في الورطة مجدداً، فأسرعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليأمر أبا بصير هو ورجاله بالكف عن تجارتها مقابل التنازل عن الشرط المجحف، وذلك برد من يأتي مؤمناً إلى النبي صلى الله عليه وسلم إليها.

الخلاصة

هذه الوقائع تكشف عن الحس العالي ومدى ضبط الأعصاب غير المسبوق المتمثل في شخص صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفهم الشفرات والتبادل بها وتوظيفها، دون إحداث خلل ببنود الاتفاق، الذي اعترفت فيه قريش بتوقير ونزاهة النبي صلى الله عليه وسلم والتزامه بالشروط.

جاء تتويج ذلك نجاح أبي بصير وإمكانية عودته إلى المدينة، دون أن يسلّم لقريش مجدداً، وذلك بوصول كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إليه يأمره بالعودة ومن معه، لكنه كان في مرضه الأخير، فمات ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم فوق صدره، ليترك نموذجاً فريداً للمقاوم الذكي المناور، وهم عادة نادرو الوجود، لكن أفعالهم عظيمة الفائدة.

وكشف الصحابي الجليل عن أن هناك مساحة واسعة تتقاطع فيها العقول الذكية، التي تقرأ ما بين السطور، وتوظف إمكاناتها بحسب معطيات بيئتها، التي بدأت بشخص واحد (أبي بصير)، المتمرد في نظر المجتمع الدولي، وانتهت بالعشرات الذين فرضوا كلمتهم، ليرسموا واقعاً جديداً ونصراً مبيناً وفرجاً ومخرجاً لكل المستضعفين والمضطهدين.

إننا في حاجة لهذا النموذج الذكي وقراءة العبرة والدروس، وليس استنساخها، مثلما فعل الصحابي الجليل أبو بصير، الذي استطاع أن يخلص نفسه بدون تكلفة تلحق بداعميه، أو تحرج دولته، وفي ذات الوقت كانت إدارته للأزمة تسير وفق الأعراف والتقاليد، التي يخضع لها محيطه الاجتماعي.

تمتع الصحابي أبو بصير بذكاء اجتماعي كبير، وظّف فيه كل آليات بيئته، وأدار أزمته باقتدار وعناية في توظيف الزمان والمكان والإنسان، فصنع حدثاً كان له ما بعده من انفراجة كانت تمثل ثقلاً نفسياً وسياسياً في أكبر اتفاقية شهدها عصر الرسالة.

أيضاً لا يفوتنا الحس العالي لدى الصحابي العبقري عمر بن الخطاب، الذي كان له دور مبهر في انتشار الشفرة بعد فكّها وفهمها؛ ما مثّل في إنشاء قوة موازية وزخم معنوي ونفسي لأبي بصير، الذي جاءه المستضعفون، فوظف هذه الطاقة بما لا يتصادم دولياً ويحرج دولة المدينة أو يفسد اتفاقها.


اقرأ أيضاً:

لماذا اهتز عرش الرحمن للصحابي سعد بن معاذ؟

«كاتم السر».. لماذا خُصَّ حذيفة بن اليمان بأسماء المنافقين؟

«صلح الحديبية».. قراءة جديدة في سيكولوجية فريق التفاوض



_________________

(1) الصالحي: سبل الهدى والرشاد.

(2) ابن القيم: زاد المعاد في هدي خير العباد.

(3) السهيلي: الروض الأُنُف.

(4) سيرة ابن هشام.

(5) الصالحي، مرجع سابق.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة