العلماء من هم؟ وماذا يُراد منهم؟

العلماء الربانيون الذين فقهوا عن الله مراده، وحفظوا حدوده؛ ولم يشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، هم أفضل العباد، وأعلى درجة من الزهاد، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فأفتَوْا بغير علم فضلوا وأضلوا»، وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: «أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء».

وفي هذه الأزمات العظام التي تعاني منها أمة الإسلام، حيث غُيِّبتْ شريعة الله عز وجل، واستبدلت بأحكامها تلك القوانين الوضعية، وحصل الاختلال في العبادة والأخلاق والسلوك، وتمكَّنَ أعداء الله من رقاب الأمة فساموها سوء العذاب، تناط بالعلماء مسؤوليات جسام لا بد لهم من الاضطلاع بها وأداء الأمانة نحوها، ومن تلك المسؤوليات:

أولاً: تقوية الصلة بالشباب الذين هم عماد الأمة ومستقبلها؛ فإنه يقبح بالعالم أن ينصرف عنه الشباب لأنهم عهدوا منه الكسل في نشر العلم والتواني في بحث النوازل والانصراف عن مهمات القضايا، مع تَبَلُّد الحس وبرود الشعور إزاء ما يقع بأمة الإسلام من ظلم تنوء بحمله الجبال، وأقبح منه أن يعهدوا منه ميلاً مع أهواء ذوي السلطان وأهل المال؛ فيصدق في حقهم قول القائل: بالملحِ تُصْلِحُ ما تخشى تغيُّرَهُ فكيف بالملح إنْ حَلَّتْ به الغِيَرُ؟ وقول الآخر: يا علماءَ الدينِ يا ملحَ البلد من يُصْلحُ الملحُ إذا الملحُ فسد؟

ثانياً: التواضع لهؤلاء الشباب والصبر على لأوائهم؛ في حِدَّة تظهر من بعضهم، أو تعالمٍ يطرأ على آخرين، أو ميلٍ مع الهوى قد يزيِّنه لهم شياطين الإنس والجن، حتى تنجلي لهم الحقائق وتستبين لهم الأمور؛ (وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام: 55).

والقدوة في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسـلم الذي كانت الأمة من إماء المدينة تأخذ بيده فيذهب معها حتى يقضي حاجتها، والذي كان يُقبلُ على محدِّثِه بوجهه، ويجلس مع أصحابه مختلطاً بهم حيث انتهى به المجلس حتى يظن جليسُه أنه لا أحدَ أكرمُ عليه منه، والذي كان باذلاً وقته للناس، يقضي لهم مصالحهم، ويفض منازعاتهم، ويحكم فيما شجر بينهم، ويسعى بالإصلاح، والذي علَّمنا أن السعي في حاجة المسلم أحبُّ إلى الله من الاعتكاف في المسجد شهراً.

ثالثاً: البيان الجلي لحقيقة الحرب التي تواجهها الأمة، وأنها معركة شرسة بين حضارة إسلامية تريد للناس أن يعيشوا أحراراً كما ولدتهم أمهاتهم، وحضارة صهيونية صليبية تريد استعباد الناس، ونهب ثرواتهم، وتغيير مفاهيمهم، وفرض ثقافة شائهة تائهة عليهم، وتستعمل في سبيل هذه الغايات الخسيسة كل وسيلة لتركيع الناس وإخضاعهم؛ فتارة حربٌ نفسية، وتارة حصارٌ اقتصادي، وأخيراً حربٌ عسكرية تستعمل فيها سائر الأسلحة الفتاكة والمدمرة دون اعتبار لشرعية دولية أو مبادئ أخلاقية، ولتحقيق ذلك تُستباح الأعراض، وتُهدد الحصون، وتُغتال الرموز إما حسياً أو معنوياً.

رابعاً: بيان واجب الوقت في تلك المعركة، وأن الإعداد فرض عين على كل مسلم مستطيع، نعني الإعداد بكل أنواعه علمياً واقتصادياً وبدنياً ومعنوياً، وأن كل من يسعى لصرف الناس عن ذلك فقد تلبس بخصلة من خصال أهل النفاق؛ قال تعالى: (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة: 46).

خامساً: على العلماء أن يزرعوا في الناس روح التفاؤل؛ ويبينوا لهم مواضع القوة الكامنة فيهم، في وقت قد أحاطت بهم مسحة تشاؤم من كثرة ما يرون من خزي وخذلان وانبطاح أمام أعداء الله، فهذا هو الهدي المطرد في سُنة نبينا صلى الله عليه وسلم؛ روى البخاري: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى خَيْبَرَ لَيْلاً وَكَانَ إِذَا أَتَى قَوْمًا بِلَيْلٍ لَمْ يُغِرْ بِهِمْ حَتَّى يُصْبِحَ؛ فَلَمَّا أَصْبَحَ خَرَجَتْ الْيَهُودُ بِمَسَاحِيهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ -يعني الجيش- فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «خَرِبَتْ خَيْبَرُ؛ إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ»؛ قال السهيلي: يؤخذ من هذا الحديث التفاؤل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى آلات الهدم مع أن لفظ المِسحاة من سَحَوْت إذا قَشَرْت أَخذ منه أن مدينتهم ستَخرب.

وفي غزوة «الأحزاب» لما جاءه السعدان رضي الله عنهما ينقلان إليه خبر غدر يهود بني قريظة، قال عليه الصلاة والسلام: «الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين»، لا بد أن يصيح العلماء في الناس بمعنى قول ربنا جل جلاله: (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح: 6)، وقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «لن يغلبَ عسرٌ يسرين».

سادساً: تحذير الناس عملياً من نابتة السوء التي أطلقت ألسنتها بالحديث في أعراض الدعاة إلى الله وعلماء الأمة؛ أحياء وأمواتاً، التي لا يكاد يخلو منها بلد ولا قُطر، وقد تكون مُدارةً من قبل أجهزة الله أعلم بها؛ صداً عن سبيل الله ومكراً بأولياء الله، ويكون التحذير العملي بالإعراض عن هؤلاء وعدم الاشتغال بالرد عليهم حتى يتقرر في أذهان الشباب أن ذلك التطاول ليس إلا محض جهل وحديث لغو، يراد منه صرف الناس عن الحق كما قال جل من قائل: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص: 55).

وقبيحٌ بالعالم أن يكون همُّه المقعدُ المقيمُ الدفاعَ عن نفسه والذبَّ عن عرضه؛ حتى إنه لتظلم الدنيا في عينيه إذا وُجِّه إليه نقدٌ أو تعرَّض لتطاول من حَدَثٍ غِرٍّ لا يؤبَه له.

وقد روى أهل السير أن واحداً من سلف هؤلاء دخل على مالك رحمه الله وقال له: يا أبا عبدالله، أنت أحياناً تخطئ وأحياناً لا تصيب! فقال مالك: ما زال الناس كذلك! فلما خرج الرجل قال أصحاب مالك: إن الرجل قال كذا وكذا؛ فلم يأبه مالك رحمه الله لما قال ولم يتكدّر صفوه، وبقي رضي الله عنه كالطود الشامخ والجبل الأشم تُشَدُّ إليه الرحال وتُضرَب إليه أكباد الإبل، مع الذكر الحسن والسيرة العطرة ولسان الصدق في الآخرين، وما ضَرَّ السحابَ نبحُ الكلاب.

سابعاً: تحذير الناس من بعض المزوِّرين المتشبِّعين بما لم يُعطَوا، اللابسين –زوراً– زي العلماء، وما هم من العلم في قبيل ولا دبير؛ ممن تعُجُّ بهم القنوات، وتُسَوّد بمقالاتهم الصفحات، وقد قال عيسى ابن مريم عليه السلام مُصَوِّرًا حال أولئك، وكيف أنهم يصدون عن سبيل الله بمعسول القول وسيئ العمل: «مَثَلُ علماء السوء كمثل صخرة وقعت على فم النهر؛ لا هي تشرب ولا هي تترك الماء يخلُص إلى الزرع، ومَثَل علماء السوء كمثل قناة الحُشِّ ظاهرها جَصٌّ وباطنها نتنٌ، ومثل القبور ظاهرها عامر، وباطنها عظام الموتى».

وبعد، فإن على العلماء أن يتقدَّموا الصفوف ويُروا الله عز وجل ثم الناس من أنفسهم خيراً، فلا يكتفوا بالموعظة الحسنة، بل لا بد قبل ذلك من القدوة الحسنة، حين يرى الناس منهم تضحية وإقداماً، واستعداداً لبذل المهج والأرواح، فتلك لعمر الله أمارة الصدق وبرهان الإيمان.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة