سورية والكيان الصهيوني.. ثوابت الموقف وحدود العلاقة الممكنة
في ظل التصعيد
الأخير بين الكيان الصهيوني وإيران، يطفو على السطح سؤال مهم عن ملامح العلاقة
المستقبلية بين سورية الجديدة والكيان؟ لا سيما أن دمشق التزمت الصمت الذي قد يكون
مرتبطاً بتعقيدات الملف الإيراني في سورية، وحضور الجرائم الإيرانية في الذاكرة
السورية القريبة.
لكن بالمقابل،
لم يكن موقف دمشق الجديد مشابهاً تجاه القضية الفلسطينية، حيث تحدث الرئيس السوري
أحمد الشرع بوضوح في أول قمة عربية حضرها عن جرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين؛
الأمر الذي يدفع للتساؤل عن شكل العلاقة الجديدة بين سورية والكيان الصهيوني؟
يعيدنا هذا
التساؤل إلى الخلفية التاريخية، في العلاقات السورية مع الكيان الصهيوني، التي لم
تكن يوماً بسيطة، بل معقدة وغامضة، لاعتبارات عدة.
فمنذ نكبة عام
1948م، مروراً بنكسة عام 1967م واحتلال الجولان، ظلت العلاقة تتسم بالعداء العلني
والمقاومة، وهي رواية استمرت خلال حكم الأسدين، رغم ما رافقها من غياب أي تحرك
فعلي ضد الكيان منذ حرب أكتوبر 1973م.
حكم حزب البعث،
الذي تزامن صعوده مع احتلال الجولان، فُسر من البعض على أنه صعود خدم الكيان، وهو
ما كشفت عنه السنوات العجاف من شعارات جوفاء.
مرحلة ما بعد النظام تتطلب إعادة نظر
جذرية في العلاقة المثقلة مع الكيان الصهيوني
وازدادت تلك
الصورة ترسخاً في ظل ضربات الكيان المتكررة على الأراضي السورية و«الاحتفاظ بحق
الرد»، خاصة استهدافه للمواقع العسكرية والمليشيات الإيرانية في السنوات الأخيرة،
في هدف يبدو واضحاً وهو تدمير القوة العسكرية على حدود الكيان، منعاً لوقوعها بيد
المنتصرين عقب سقوط النظام البائد.
على كل حال،
تبقى الاتفاقية الأهم بين سورية والكيان هي اتفاقية فض الاشتباك وفصل القوات عام
1974م التي رسمت معالم العلاقة التاريخية.
ومع سقوط النظام
البائد في نهاية عام 2024م، بدأت مرحلة جديدة، تحمل في طيّاتها تركة ثقيلة في
العلاقة مع الكيان، تتطلب إعادة ترتيب الأوراق.
الصدمة
الكبرى
في لحظة
تاريخية، قامت إدارة العمليات العسكرية في سورية بفعل تاريخي، وصلت من خلاله إلى
دمشق؛ ما مثّل صدمة إقليمية ودولية، خصوصاً للكيان الصهيوني الذي فقَدَ حليفاً غير
معلن حافظ على استقرار حدوده لعقود.
الإعلام العبري
بدا مرتبكاً، والخطاب الصهيوني رفض الاعتراف بشرعية النظام الجديد، وتغير لقب «الجولاني»
في العالم، ولم يتغير على ألسنة قادة الاحتلال حتى اللحظة، فكيف بقوة إسلامية وحكم
فتيٍّ يحكم سورية على حدود الكيان؟!
لكن الواقع الذي
تمثل بالمواقف الإقليمية والدولية المتتالية، أجبرته على محاولة استيعاب الموقف،
دون أن يتوقف عن محاولات التخريب ليلاً ونهاراً، والعمل على منع سورية من تحقيق أي
نهضة عسكرية أو اقتصادية، وتحريك أوراق داخلية ساعياً لإثارة الانقسامات عبر
الأقليات وغيرها، لكنه فشل في ظل تحولات محلية ودولية.
ومنذ تسلّم
الرئيس الشرع السلطة، لم تتوقف الشائعات حول علاقته بالكيان، فتارة يُزجّ باسمه في
اتفاقيات مثل «الإبراهيمي»، وتارة أخرى يُشاع عن لقاءات سرية أو مسارات تطبيع، أو
حتى قبول شروط أمريكية لرفع العقوبات التي هي استحقاق للشعب السوري كما عبر الرئيس
في كلمته عقب إعلان الرئيس الأمريكي عن رفعها.
وقد وصلت
الإشاعات إلى حد الزعم بأن الرئيس مدعوم من الكيان، وهو ما وصفه البعض بالمفارقة
الساخرة! لكن تبقى الأيام القادمة كاشفة للخفايا، مرسخة للموقف الحقيقي في العلاقة
السورية مع الكيان المحتل.
محددات العلاقة وحدودها الممكنة
ومن خلال الظرف
السوري الحالي، يمكن التوصل إلى ملامح العلاقة الممكنة بين سورية الجديدة والكيان
المحتل، أبرزها:
أولاً: الدور
الدولي لسورية؛ فمن خلال موقعها الجيوسياسي الذي يجعلها لاعباً لا يمكن تجاهله في
النظام العالمي الجديد، خاصة في ظل التنافس الأمريكي – الصيني، ومن هذا المحدد،
يمكن فهم خطوة انتقال سورية من المحور الشرقي إلى المحور الغربي، وعليه يمكن
للدبلوماسية السورية أن تسير مساراً براغماتياً في علاقاتها مع الاحتلال.
الموقف السوري ثابت باعتبار الكيان احتلالاً
واتفاقية عام 1974م أساس العلاقة
ثانياً: إعادة
ترتيب الإقليم؛ حيث شكلت بحضور قوي لسورية في العمق العربي والدعم الخليجي الواضح،
والترحيب بسورية الجديدة في الدول العربية، ومن هنا يمكن أن تدخل في اتفاقيات، تمارس
فيها دور المعيق لمآرب الاحتلال وما ينعكس عليه بالإيجاب في نهاية المطاف، رغم
الرفض الشعبي الذي يمكن أن تواجهه.
ثالثاً: الشرعية
الدولية للنظام الجديد؛ وهذا ما يمكن ضبطه من خلال فهم طبيعة الاعتراف الدولي
والعربي بالعهد الجديد وعلى ماذا بني، هل أعطي الحكم الجديد الفرصة دون شروط ويبقى
تحت المراقبة؟ أم وضعت له شروط مسبقة للاعتراف به ودعمه؟ ولا يمكن تجاوز طبيعة
الدور التركي في المرحلة المستقبلية، خاصة في المجال العسكري والدبلوماسي.
رابعاً:
الاعتبارات الأمنية حيث لا يمكن لاقتصاد أن ينهض دون استقرار أمني؛ ما يعني ضرورة
وجود تفاهمات –وربما اتفاقيات– تضمن الحد الأدنى من الاستقرار على الحدود، ووقف
الاعتداءات الجوية «الإسرائيلية».
خامساً: العدو
المشترك إيران؛ التي تشترك سورية الجديدة والكيان في اعتباره يمثل تهديداً
للجانبين، وبالتالي يمكن أن تكون طبيعة العلاقة في هذا المحدد تحديداً مشابهة
لطبيعة العلاقة بين بعض الدول العربية والكيان.
سادساً: الرأي
العام السوري؛ الذي يرى في الاحتلال «الإسرائيلي» سرطاناً جرثومياً زرع في جسد
الأمتين العربية والإسلامية، وأنه السبب الرئيس فيما توصلت إليه المنطقة برمتها،
سيشكل محوراً أساسياً في طبيعة هذه العلاقة وضبطها.
سابعاً: الأراضي
المحتلة حيث تبقى الجولان المحتلة عقبة جوهرية أمام أي مسار تطبيعي محتمل، لا يمكن
فصل أي علاقة مع الكيان عن واقع الاحتلال المستمر لأراضٍ سورية، ما سيجعلها عثرة
في أي خطوة تصب في صالح الكيان.
في النهاية، يبقى
الموقف الرسمي السوري حتى هذه اللحظة ثابتاً تجاه الكيان الصهيوني أنه كيان احتلال،
لا يمكن التعاطي معه خارج هذا الإطار، وإن اتفاقية فصل القوات لعام 1974م لا تزال
حجر الأساس في العلاقة، وحتى لو رغبت بعض الأطراف في دفع سورية نحو مسار تطبيعي،
فإن بقاء الجولان تحت الاحتلال سيظل عقبة كبرى أمام ذلك.
كما أن تعنت
الاحتلال في أن يكون عائقاً أمام سورية، بأن تكون دولة قوية عسكرياً واقتصادياً
وسياسياً ودبلوماسياً، قد يفتح صفحة جديدة تقلب كل ما يروج له رأساً على عقب.
وكما شكل «السابع
من أكتوبر» منعطفاً تاريخياً في العالم والمنطقة، حين تزامنت اللحظة التاريخية مع
الفعل التاريخي، وكما تزامنت لحظة تاريخية أخرى مع فعل تاريخي وأسقطت نظام الأسد
البائد، رغم وصوله إلى حد الجبروت وإعادة التعويم من جديد، ها هو الاحتلال يمر
بحالة الاستعلاء الظاهري في الأرض، والإنهاك الداخلي، وما يدرينا أن تكون اللحظة
التاريخية قادمة وتتزامن مع فعل عربي وإسلامي تاريخي؟! حينها سنتحدث عن طبيعة
العلاقة السورية مع فلسطين، وليس مع الكيان.