المسلمون في مدغشقر.. أقلية صامدة بين الجغرافيا والتاريخ

حين يُذكر الإسلام في أفريقيا، يتبادر
إلى الذهن شمالها أو القرن الأفريقي أو غربها حيث الكثافة المسلمة الكبيرة، غير
أنّ جزيرة مدغشقر، الواقعة في المحيط الهندي شرق القارة السمراء، تحتضن أقلية
مسلمة قديمة الجذور، حملت الإسلام إليها أمواج التجارة البحرية، وظلت منذ قرون
تحافظ على هويتها رغم محيط مسيحي وهيمنة ثقافة غربية استعمارية.
قصّة المسلمين في مدغشقر ليست مجرد حكاية
عن أقلية دينية، بل رواية عن رحلة الإسلام عبر البحار، وعن تفاعل العقيدة مع
العادات المحلية، وعن صمود جماعات صغيرة في وجه التهميش الثقافي والسياسي.
جذور قديمة وطرق بحرية
تذكر المصادر أن الإسلام وصل إلى مدغشقر
في وقت مبكر جداً، عبر التجار العرب القادمين من حضرموت واليمن وعُمان، وعبر مسلمي
شرق أفريقيا من زنجبار والساحل الكيني والتنزاني، هؤلاء البحّارة والتجار جلبوا
معهم اللغة العربية والقرآن الكريم، وتركوا أثراً في أسماء العائلات والقرى، بل
وحتى في بعض المفردات المالاغاشية (اللغة الرسمية في مدغشقر) التي تحمل أصولاً
عربية.
ويُروى أن وصول الإسلام إلى الجزيرة قد
بدأ منذ القرن العاشر الميلادي تقريباً؛ أي قبل وصول الاستعمار الأوروبي بعدة قرون،
وقد أسس المسلمون الأوائل مساجد صغيرة على طول السواحل، لا تزال بعض آثارها قائمة
حتى اليوم.
عدد المسلمين ونسبتهم
رغم غياب إحصاءات دقيقة حديثة، تشير
الدراسات إلى أن نسبة المسلمين في مدغشقر تتراوح بين 7 - 15% من السكان؛ أي ما
يقرب من مليون إلى مليونين من إجمالي سكان الجزيرة البالغ عددهم نحو 29 مليون نسمة،
أغلبية هؤلاء المسلمين تعود أصولهم إلى خليط من العرب والهنود والكوموريين الذين
استقروا في الجزيرة عبر الهجرات والتجارة.
تنوع مذهبي وثقافي
تتنوع المذاهب الإسلامية في مدغشقر، منها:
- الشافعية هي الغالبة تاريخياً، بحكم
ارتباط الجزيرة بالساحل الشرقي لأفريقيا واليمن.
- هناك وجود للحنفية بين المسلمين ذوي
الأصول الهندية.
- في العقود الأخيرة، ظهر نشاط محدود
للجماعات الدعوية مثل جماعة التبليغ، وكذلك بعض الجمعيات المرتبطة بالعمل الخيري
الخليجي والتركي.
كما أن المسلمين يتحدثون المالاغاشية،
لكنهم يحتفظون بصلات قوية باللغة العربية، حيث توجد مدارس قرآنية ومراكز لتعليم
العربية، وإن كانت محدودة الإمكانات.
أثر الاستعمار الفرنسي
مع دخول الاستعمار الفرنسي إلى مدغشقر في
القرن التاسع عشر، تعرض المسلمون لتهميش متعمد، فقد دعم الفرنسيون نشر المسيحية
الكاثوليكية، وأسسوا مؤسسات تعليمية وصحية تبشيرية، بينما أُهملت المدارس القرآنية،
بل إن الفرنسيين سعوا إلى عزل المسلمين عن مراكز القرار، وجرى تصويرهم في بعض
الأحيان على أنهم غرباء أو أجانب، رغم أنهم كانوا جزءاً أصيلاً من النسيج
الاجتماعي.
وقد انعكس هذا الإرث على الوضع الحالي؛
إذ لا يزال المسلمون يواجهون صعوبات في الحصول على تمثيل سياسي مناسب، كما أن
نسبتهم في المناصب العليا قليلة للغاية مقارنة بثقلهم التاريخي.
الحياة الدينية والتعليم الإسلامي
المسلمون في مدغشقر يحتفظون بصلتهم
بالقرآن الكريم عبر الكتاتيب التقليدية، حيث يجتمع الأطفال في بيوت أو مساجد لتلقي
الحفظ على أيدي الشيوخ، ومع ذلك، فإن ضعف الدعم المالي ونقص الكوادر التعليمية
يجعل هذه الجهود محدودة الأثر مقارنة بالمدارس الرسمية المسيحية أو الحكومية.
لكن ما يثير الإعجاب أن المسلمين في
الجزيرة يبنون مساجد باستمرار، حتى في القرى الصغيرة، ويُلاحظ أن بعض المدن
الساحلية مثل ماجنجا وتوليارا تضم مساجد عريقة يقصدها الزائرون المسلمون من الخارج.
تحديات الحاضر
يواجه المسلمون في مدغشقر مجموعة من
التحديات، منها:
1- التعليم: نقص المدارس الإسلامية
الحديثة وضعف المناهج الموحدة.
2- التمثيل السياسي: محدودية وجودهم في
البرلمان والحكومة.
3- التهميش الاجتماعي: تصويرهم في بعض
وسائل الإعلام كأقلية «مستوردة».
4- الفقر والبطالة: وهي مشكلات عامة في
مدغشقر، لكن تأثيرها أشد على المسلمين الذين يتركزون في مناطق مهمشة.
فرص الأمل والتجديد
رغم التحديات، هناك مؤشرات إيجابية، منها:
1- وجود جمعيات إسلامية تعمل على تعليم
اللغة العربية ونشر الوعي الديني.
2- علاقات ناشئة مع مؤسسات خيرية من
الخليج وتركيا وماليزيا تساعد في بناء المساجد والمدارس.
3- حضور متزايد للشباب المسلم في منصات
التواصل الاجتماعي؛ ما يُتيح لهم التعبير عن هويتهم والانفتاح على العالم
الإسلامي.
الإسلام والتعايش في مدغشقر
من اللافت أن المسلمين في مدغشقر يعيشون
بسلام مع بقية الطوائف، ولم تُسجّل صراعات دينية كبيرة عبر التاريخ الحديث، فالمجتمع
المالاغاشي متسامح عموماً، وإن كان يتأثر أحياناً بالخطاب السياسي أو التبشيري.
هذا التعايش يمثل فرصة للمسلمين لإبراز
قيم الإسلام السمحة، خاصة في بيئة تحتاج إلى نماذج عملية تُظهر أن الإسلام ليس
عائقاً للتنمية، بل حافزاً للأخلاق والعمل المشترك.
قصة الأقلية المسلمة في مدغشقر قصة جذور
ضاربة في التاريخ، وحاضر مليء بالتحديات، ومستقبل مفتوح على آفاق الأمل، لقد جاء
الإسلام إلى هذه الجزيرة عبر أمواج المحيط، وها هو اليوم يثبت أنه باقٍ رغم
التهميش، لأن نوره لا يُطفئه البحر ولا الاستعمار ولا الغربة.
إن دعم هذه الأقلية معرفياً ودعوياً وتعليمياً ليس واجباً على المؤسسات الإسلامية فحسب، بل على الأمة كلها، حتى تبقى
مدغشقر شاهداً جديداً على أن الإسلام دين عالمي ينتشر بالقدوة والكلمة الطيبة، لا
يقف عند حدود الجغرافيا.