مسلمون خلف الذاكرة (4)

مسلمو تركستان الشرقية.. صراع الهوية والاستقلال

يتوزع مسلمو الصين وتركستان (الشرقية والغربية) في الأراضي الصينية والسوفييتية قبل تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991م، كما تتواجد تجمعات منهم في المناطق المتاخمة لها والقريبة منها، فعلى هذه الأراضي تعيش مكونات وتجمعات سكانية متعددة تمثل في مجملها ثقلاً جغرافياً وديموغرافياً واقتصادياً واجتماعياً إسلامياً مهماً، يبلغ قوامه أكثر من 138 مليون نسمة وفقاً لتعداد عام 2022م.

ولو ظلت تركستان موحدة دون تقسيمها إلى جزأين (تركستان الشرقية والغربية) لباتت قوة ذات نفوذ فاعل في السياسة الدولية والاقتصاد العالمي، ولأضافت للمسلمين حول العالم قوة كبرى يمكن أن تناظر كلاً من الولايات المتحدة والدول التي تقود المعسكر الشيوعي (الصين والاتحاد السوفييتي قبل التفكك).

الاتحاد السوفييتي والصين شنا حملات استعمارية على منطقة تركستان المسلمة أسفرت عن اقتسامها

لكن الاتحاد السوفييتي والصين الشيوعيين اختطفا هذه القوة وقاما باقتسامها بعد أن اتحدا عليها وقاما بشن حملات استعمارية متتالية على أراضيها أسفرت عن اقتسامها بعد تمزيقها إلى قسمين؛ تركستان الشرقية التي وقعت في قبضة الصين، وتركستان الغربية التي احتلها الاتحاد السوفييتي وقام بدوره بتمزيقها إلى 5 قطع (دول) هي: كازاخستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان، وهي المسماة حالياً بدول آسيا الوسطى، وغيرها من المكونات الإسلامية داخل الاتحاد السوفييتي الساقط، وداخل الاتحاد الروسي، ويضاف إليها هونج كونج وتايوان المتاخمتان لها.


المسلمون الصينيون.. ملحمة التشبث بالعقيدة ومقاومة الانصهار في الشيوعية! |  Mugtama

المسلمون الصينيون.. ملحمة التشبث بالعقيدة ومقاومة الانصهار في الشيوعية! | Mugtama
ينتمي المسلمون الصينيون الذين نشؤوا داخل الصين وعاشوا على أرضها إلى قومية «الهاو» أو «الهوي»
mugtama.com
×


وهكذا تمكنت الإمبراطورية الشيوعية ممثلة في الصين والاتحاد السوفييتي قبل التفكك من التهام هذه الأراضي الإسلامية بما فيها من ثروات ضخمة واقتصاد قوي وكتلة سكانية كبيرة، وجعلت منها وقوداً لبناء إمبراطوريتها الجديدة، ومارست على شعوبها حملات شرسة ومتواصلة من القهر والقتل والتفتيت والتذويب والتشريد داخل الإمبراطورية السوفييتية والأراضي الصينية؛ بغية إضعافهم وجعلهم صالحين فقط للخدمة على بناء الدولة الصينية والإمبراطورية السوفييتية، دون تمكينهم من بناء أي قوة ذاتية أو دولة موحدة ومستقلة ترعى مصالحهم وتنهض بهم كمسلمين، بل حولوهم إلى أقليات متناثرة مهيضة الجناح، تم حشرها في أعمال السخرة بعد حرمانها من أبسط حقوقها في التعليم وامتلاك اقتصاد وأي أدوات لبناء دولة.

تركستان الشرقية دولة تركية احتلتها الصين في القرن الثامن عشر وأطلقت عليها اسم «سنكيانج»

هذا جانب من المسلمين المنسيين الذين سادوا الدنيا يوماً ثم تكالبت عليهم قوى الاستعمار؛ فأعملت فيهم آلة القهر والفقر والتخلف؛ ولذا وجب التوقف أمام تاريخهم لتعريف الناس -وخاصة المسلمين في أنحاء العالم- بهم وما آلت إليه أوضاعهم.

الصراع الصيني ومستقبل تركستان الشرقية

وفي الملف الذي خصصته مجلة «السياسة الدولية» الصادرة عن مؤسسة «الأهرام» المصرية، في عدد أبريل 1998م، بعنوان «الصين: إشكالات الانتقال وتداعيات الإصلاح»، وتضمن 14 مقالة في حوالي 120 صفحة، لمتخصصين، تناولوا العديد من الجوانب السياسية والأيديولوجية والاقتصادية للتجربة الصينية في الماضي والحاضر، مع نظرة عاجلة للمستقبل، هذا الملف تضمن مقالاً علمياً عميقاً عن «الصراع الصيني التركستاني ومستقبل تركستان الشرقية»، كتبه البروفيسور د. محمد حرب، أستاذ الدراسات التركية في الجامعات التركية، وهو باحث قدير متخصص في هذا المجال.

ويؤكد في هذا الملف أن تركستان الشرقية هي دولة تركية احتلتها الصين الشعبية في القرن الثامن عشر الميلادي وأطلقت عليها -قسراً- اسم «سنكيانج»، وهي كلمة صينية تعني المستعمرة الجديدة، وذلك بموجب مرسوم رسمي قضى بتحويلها إلى مقاطعة صينية في 14 نوفمبر 1884م.


القوميات المسلمة في الصين |  Mugtama

القوميات المسلمة في الصين | Mugtama
الصين دولة متعددة القوميات، يعيش على أرضها 56 قو...
mugtama.com
×

ويتناول د. حرب بالتحليل قضية الصراع بين الصين وتركستان الشرقية منذ أول غزو صيني للأراضي التركستانية في منتصف القرن الثامن عشر (1759م) الذي دام حوالي قرن كامل، إلى أن استطاع الشعب التركستاني الظفر باستقلال بلاده عام 1865م، لكن بعد 10 سنوات، عادت الصين واحتلت تركستان الشرقية، لكن التركستانيين تمكنوا من طرد القوات الصينية من بلادهم ونيل استقلالهم للمرة الثانية عام 1933م، إلا أن مطامع الجارة الكبيرة روسيا (زمن الاتحاد السوفييتي (1917 - 1991م) أدت إلى سقوط تركستان تحت الاحتلال الروسي عام 1934م؛ أي بعد عام واحد من الاستقلال.

وأثناء الحرب العالمية الثانية (1939م - 1945م) ضعفت روسيا، وتقدم الألمان في الأراضي السوفييتية فانتهزت الصين الفرصة، واحتلت تركستان للمرة الثالثة.

الصين شنت حملات اضطهاد على تركستان الشرقية وارتكبت مذابح ما حدا بمئات آلاف التركستانيين إلى الهجرة

وهكذا تبدل الاحتلال الروسي للبلاد باحتلال صيني مرة أخرى، لكن في عام 1944م تفجرت ثورة عارمة بقيادة عالم الدين علي خان، انتهت بإعلان استقلال تركستان الشرقية للمرة الثالثة أيضاً؛ فتحالفت روسيا والصين، ذواتا التوجه والأيديولوجية الشيوعية، فأسقطتا حكومة الاستقلال عام 1949م، وقام الروس وعملاؤهم باختطاف قائد هذه الثورة الإسلامية.

وأرغمت كل من الصين وروسيا الوطنيين من التركستانيين على قبول الصلح مع الصين مقابل الاعتراف بحقوقهم في إقامة حكومة من الوطنيين، وقد قبلوا ذلك، لكن الصين انقلبت على وعودها ونقضت العهد وشنت حملات اضطهاد دامية على شعب تركستان الشرقية، ثم اجتاحت قواتها أراضي تركستان الشرقية للمرة الرابعة، وارتكبت فيها مذابح رهيبة وشرعت في تنفيذ مخطط إذابة شعبها المسلم في المحيط البشري الشيوعي الضخم الذي حاول ابتلاع الشعب التركستاني وسط عمليات اضطهاد بالغة؛ ما حدا بمئات الآلاف من مسلمي تركستان الشرقية إلى الهجرة إلى تركيا والسعودية ودول إسلامية أخرى هرباً من الاضطهاد الشيوعي البشع، وما زالت تلك الأراضي في قبضتها حتى اليوم.

وهكذا، كان قدر مسلمي تركستان الشرقية في تلك الفترة أنهم وقعوا بين شقي رحى أكبر قوتين شيوعيتين (روسيا والصين)؛ ما تسبب في معاناة شديدة للمسلمين هناك.

مخطط «التصيين» الرهيب

وتوقف البروفيسور حرب في مقاله أمام مخطط «التصيين» الرهيب الذي تنفذه الصين هناك، وتهدف من ورائه إلى توطين عشرات الملايين من الصينيين في تركستان الشرقية بهدف محو هويتها الإسلامية وتحويلها إلى مقاطعة صينية بالقوة.

وقد بدأ ذلك المخطط الجهنمي في السنوات الأولى لاحتلال الصين لتركستان الشرقية؛ حيث ارتكبت القوات الصينية جرائم وحشية بحق الشعب التركستاني، فقد احتلت الصين تركستان الشرقية عام 1759م، وقتلت قواتها حينها حوالي مليون مسلم، ومنذ ذلك التاريخ اتبعت الصين هناك سياسة استيطانية تعرف بسياسة «تصيين تركستان الشرقية»، لكن المسلمين واجهوا هذه السياسة وخاضوا حروباً تحريرية عديدة ضد الاستعمار الشيوعي حتى حققوا استقلال بلادهم عام 1933م، لكن سرعان ما أسقطت روسيا هذه الجمهورية الإسلامية بعد عام واحد من قيامها، باحتلالها عام 1934م، وهكذا، ظلت تركستان الشرقية بين احتلال تكرر 3 مرات ثم استقلال ثم احتلال ما زال مستمراً حتى اليوم.

اقرأ أيضاً: تعرَّف على خطط الصين لهدم الإسلام بغلق وتدمير المساجد

التصيين الثقافي والاجتماعي

ولم يترك الحكم الشيوعي الصيني زاوية من زوايا الفكر والثقافة إلا وعمل على توجيهها لخدمة أهدافه الاستعمارية ومبادئه الشيوعية والإلحادية الهادفة إلى تذويب الهوية الإسلامية، فالمقالات والكتب تمتدح رموز الحكومة الصينية مهما كانت مواقفها واستبدادها بمسلمي تركستان الشرقية.

.. واستقدمت مهاجرين صينيين شيوعيين بأعداد ضخمة وقامت بتوطينهم في تركستان الشرقية محل المسلمين

وتركز أجهزة الإعلام على دعوة المسلمين لممارسة التقاليد الصينية البوذية الاجتماعية، مثل المشاركة في احتساء الخمور، وتناول لحم الخنزير، والاختلاط بدعوى صداقة الشعوب واتفاقها واتحادها، وتشجيع الزواج المختلط بين المسلمين والبوذيات، والمسلمات مع البوذيين، وتقديم مكافآت مالية ووظيفية للتشجيع على ذلك، واعتبار أي انتقاد لمثل هذا الزواج -بالرغم من تحريم الإسلام له- موقفاً عدائياً نحو الصينيين، ويدعو لإثارة الفتنة والاضطراب ضد الحكم الصيني، ومن يقف ضد هذا الزواج فمصيره السجن أياً كان.

تغيير التركيبة السكانية

وقد بدأت الصين عقب احتلالها الأخير لتركستان الشرقية باستقدام مهاجرين صينيين بأعداد ضخمة وتوطينهم فيها حتى يصبح شعب تركستان الشرقية أقلية وهو صاحب الأرض وسط أكثرية صينية شيوعية غريبة ووافدة عليه، واسترق الصينيون الشعب المسلم، وألغوا الملكية الفردية والمؤسسات الدينية وهدموا أبنيتها واتخذوا من المساجد أندية ومقاهي لجنود الاحتلال، كما استخدموا بعضها دوراً للسينما والمسرح.

وكذلك أجبروا المسلمين على تربية الخنازير، والتزاوج مع الصينيين، وألغوا تدريس اللغة العربية والتاريخ الإسلامي من مناهج المدارس والمعاهد العليا، واستبدلوا تاريخ الصين واللغة الصينية بها؛ بهدف قتل روح الإسلام في النفوس، ويمكن القول: إن الثورة الثقافية في الصين إنما قامت لتحطيم كل ما يخالف الثقافة الشيوعية في النفوس، وإعلان أن الإسلام خارج على القانون ويعاقب كل متلبس به، وذلك جزء من مخطط إلحادي واسع لفرض الشيوعية فرضاً خبيثاً.

انتفاضات الإيمان في وجه الإلحاد

ورغم ذلك، فإن الثورات التي قام بها المسلمون في تركستان الشرقية وحرب الدفاع عن النفس والدين والهوية التي شنها شعب تركستان الشرقية من الجبال ضد القوات الصينية إنما قامت باسم الإسلام، كما أن الشهداء الذين سقطوا برصاص القوات الشيوعية إنما سقطوا وهم يُكبِّرون.

إن انتفاضات شعب تركستان الشرقية كثيرة ومتعددة، قدم خلالها آلاف الشهداء بالرغم من أن الصين تعمل على إخفاء أنباء هذه الانتفاضات عن العالم.

وما زال هذا الشعب قابضاً على دينه، ومقاوماً لحرب تغيير الهوية والتركيبة السكانية!

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة