الخطاب الدعوي المعاصر في ماليزيا.. رؤية د. محمد عصري نموذجاً
نسلط الضوء في
هذا المقال على عالم ديني جليل وشخصية رائدة في العمل الإسلامي المعاصر في ماليزيا
وشرق آسيا، استطاعت من خلال نشاطها العلمي، وأسلوبها العصري، وبصيرتها الدعوية، أن
تُحدث تحولًا بارزًا في واقع العمل الإسلامي، لاقت به اهتمامًا واسعًا في المجتمع
والأوساط الفكرية والدعوية.
وقبل استعراض
تجربة د، محمد عصري زين العابدين، من الضروري فهم السياق الماليزي الذي نشأ فيه
وتفاعل معه، فماليزيا ليست مجرد دولة حديثة في جنوب شرق آسيا، بل بيئة معقدة
ومتنوعة تجمع بين الحداثة والتقاليد، والتعددية الدينية والهوية الإسلامية؛ ما
يجعل أي مشروع إصلاحي بحاجة إلى وعي عميق بهذه الخصوصيات؛ لذا، فإن دراسة الواقع
الماليزي تُعد مدخلًا أساسيًا لفهم مواقف د. عصري وأفكاره.
جمال
الطبيعة وتعدّد الثقافات والأديان والنُّظم
تتميّز ماليزيا
بجمال طبيعتها الاستوائية وغاباتها المطيرة؛ ما جعلها وجهة سياحية واستثمارية
بارزة، وبيئة مهيأة للتفاعل الدعوي والحضاري، ويعيش في هذه البلاد مجتمع متعدد
الأديان والأعراق، يشكّل المسلمون (وأغلبيتهم من الملايو) حوالي 60% من السكان،
إلى جانب الصينيين، والهنود، والمسيحيين، وغيرهم، هذا التنوع يمثّل تحديًا وفرصة
في آن واحد للدعوة الإسلامية، خاصة في تعزيز قيم التعايش، وبناء خطاب دعوي يحترم
الثوابت ويخاطب الجميع بوعي ومسؤولية.
يعتمد النظام
القانوني في ماليزيا على ازدواجية تجمع بين:
- القانون
المدني: ويُطبّق على جميع المواطنين.
- القانون الشرعي: ويُطبّق على المسلمين في مسائل الأحوال الشخصية وبعض الشؤون الدينية، تحت إشراف المجالس الدينية والمحاكم الشرعية في كل ولاية.
ويخضع العمل
الدعوي لرقابة رسمية ويستلزم تراخيص، خصوصًا في المسائل العقدية والسياسية؛ ما
يفرض على الدعاة الالتزام بالضوابط القانونية والمحافظة على الخطاب المتزن.
تُعد ماليزيا
ملكية دستورية، ينص دستورها (المادة 3) على أن الإسلام هو الدين الرسمي، مع ضمان
حرية الأديان الأخرى، فيما تنص (المادة 153) على حماية امتيازات الملايو والسكان
الأصليين؛ ما يُبرز البُعد الديني والعرقي في تشكيل السياسات العامة.
هذا الواقع
المعقّد شكّل مشهدًا دعويًا متنوعًا، تتفاعل فيه تيارات تقليدية، إصلاحية، سلفية،
وحركية، كلٌّ منها يسعى إلى معالجة تحديات المجتمع والدولة وفق رؤيته؛ ما يجعل
الساحة الدعوية في ماليزيا غنية بالتجارب ومليئة بالدروس.
الدعوة
في ماليزيا.. بين المؤسسات والمجتمع والتحديات المعاصرة
تتميّز الدعوة
الإسلامية في ماليزيا بتكامل لافت بين الجهود الرسمية والمجتمعية، بما يعكس طبيعة
البلاد متعددة الأعراق والأديان، فعلى المستوى الرسمي، تتولى مؤسسات الدولة تنظيم
الخطاب الديني، أبرزها الهيئة الفيدرالية للشؤون الإسلامية (جاكيم) التي تُشرف على
التنسيق العام، إلى جانب المجالس الدينية في كل ولاية، التي تضبط الفتوى والخطب
وتدير المساجد، وتُستخدم المساجد الوطنية والجامعية كمنابر لتوجيه خطاب ديني معتدل
ومتزن، يراعي السياسات العامة للدولة.
في المقابل،
يشهد المجتمع الماليزي نشاطاً دعوياً متجدداً، تقوده الجمعيات والمنظمات الإسلامية
الأهلية التي تسهم في توعية وتعزيز القيم الدينية في الحياة العامة، كما برزت
المبادرات الشبابية والإعلامية، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في نشر
المفاهيم الشرعية والتصدي للشبهات بأساليب عصرية وباللغات المتنوعة المنتشرة في
البلاد، إلى جانب ذلك، يضطلع دعاة مستقلون بدور فاعل من خلال البرامج التدريبية
والدروس العامة؛ ما يثري المشهد الدعوي خارج الإطار التقليدي.
ويتميّز الخطاب
الدعوي في ماليزيا بقدر كبير من الاعتدال والوسطية، إذ يجمع بين التمسك بالأصالة
والانفتاح الواعي على مستجدات العصر، ويُقدَّم بلين وحكمة، بما يناسب التنوع
الثقافي والديني، كما يسعى هذا الخطاب إلى ترسيخ الهوية الإسلامية الوطنية دون
الإخلال بمبادئ التعددية التي يتسم بها المجتمع الماليزي.
ورغم ما تتمتع
به الساحة الدعوية من حيوية وتنوع، فإنها تواجه تحديات عدّة، أبرزها الرقابة
الرسمية المشددة، والقيود القانونية على دعوة غير المسلمين، إلى جانب التأثير
المتزايد للتيارات الغربية والعلمانية، فضلاً عن وجود اتجاهات متعصبة محلياً تعيق
الانفتاح والاجتهاد، كل هذه التحديات تفرض على الدعاة وقيادات العمل الدعوي ضرورة
الجمع بين الثبات على المبادئ والوعي بالواقع.
د.
عصري.. النشأة والتكوين العلمي والفكري
وُلد د. محمد
عصري في أسرة محافظة غرست فيه القيم الدينية والانضباط منذ الصغر، ونشأ في بيئة
تُعلي من شأن العلم الشرعي، فأبدى حباً مبكراً للقراءة والاطلاع؛ ما مهّد له طريق
الدعوة وطلب العلم.
تلقى تعليمه في
مدارس دينية محلية، أبرزها «الإرشاد» و«معهد إسلامي كلانغ»، حيث درس اللغة العربية
والفقه وأصول الدين، ثم واصل دراسته في جامعة الأردن، وحصل على بكالوريوس الشريعة
بمرتبة الشرف، متأثراً بالمدرسة السلفية والمنهج الإصلاحي، مستفيداً من علماء
العرب في فهم النصوص الشرعية بعمق.
نال الماجستير
من جامعة العلوم الماليزية، ثم الدكتوراة من الجامعة الإسلامية العالمية، في قسم
القرآن والسُّنة، حول تجديد الفكر الإسلامي ومقاصد الشريعة.
تأثر بمنهج ابن
تيمية، وابن القيم، وتبنّى مشروعاً تجديدياً يقوم على الكتاب والسُّنة، منفتحاً
بوعي على قضايا العصر، عُرف بطرحه المتزن وجرأته في الدفاع عن العقيدة وكشف البدع
والخرافات، فحظي بقبول واسع داخل ماليزيا وخارجها، لا سيما بين الشباب والمثقفين.
النشاط
الدعوي والإصلاحي
كان د. عصري،
حفظه الله، فاعلاً في ميدان الدعوة قبل تقلّده أي منصب رسمي، حيث تميّز عطاؤه
بالاستمرار والهدوء، متحرراً من القيود الإدارية، ومندفعاً بعقيدته ووعيه في
مخاطبة الناس، ألقى الدروس والخطب، وكتب المقالات الفكرية، وتفاعل مع الشباب
والمثقفين، وأسس منصات إعلامية مستقلة، وكان من أوائل من استخدم الوسائل الرقمية
لنشر التوحيد ومحاربة الخرافة والانحراف العقدي.
لم يكن مجرد
واعظ، بل موجّهاً للأفكار ومجدداً في الطرح، جمع بين الأصالة والاتزان، وفي تلك
المرحلة، تبلورت ملامح مشروعه الإصلاحي الذي سيأخذ بُعداً مؤسسياً لاحقاً.
التوظيف
الأمثل للمنصب الرسمي في خدمة الإصلاح والتجديد
عندما تولّى د.
عصري منصب مفتي ولاية برليس، لم يكن ذلك تحوّلاً في مسيرته، وإنما امتداد طبيعي
لجهوده الدعوية، حيث انتقل من التأثير الفردي إلى العمل المؤسسي، وقد أحسن استثمار
هذا المنصب في الدفاع عن ثوابت الإسلام، ومحاربة البدع والانحرافات، والتصدي
لمحاولات تسييس المؤسسات الدينية.
جاء تعيينه من
قِبل السلطان المعظّم لولاية برليس، المعروفة بتمسكها بالكتاب والسُّنة، وبدعم
كامل من سمو ولي العهد، المشهود له بالصلاح وحب الخير، حفظهما الله.