أوروبا وحلم "الدولة الفلسطينية"

ارتفع
عدد الدول الأوروبية التي أعلنت اعترافها بالدولة الفلسطينية، في رد على العدوان
الصهيوني على الشعب الفلسطيني في غزة، والتحقت دول كانت إلى الأمس القريب تقف في
الجانب الصهيوني دون شروط، وذلك كنوع من الضغط على حكومة نتنياهو ودفعه إلى إنهاء
العدوان. وقد انعقد مؤتمر نيويورك بحضور عشرات الدول التي تنادت إلى الاعتراف
بالدولة الفلسطينية والدعوة إلى حل الدولتين كنافذة وحيدة لإحلال السلام وإنهاء
الحرب.
وسبق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن أعلن اعتزام بلاده الاعتراف بالدولة الفلسطينية في مؤتمر يُعقد في باريس شهر سبتمبر القادم، تزامنا مع انعقاد القمة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي ظل هذا الزخم الدبلوماسي الدولي، ارتفع عدد الدول التي أبدت اعترافها بالدولة الفلسطينية إلى 147 دولة عضو في الأمم المتحدة، ومن المتوقع أن يرتفع هذا العدد خلال مؤتمر باريس.
قد يبدو هذا انعطافًا في المواقف الدولية، وخاصة الغربية، تجاه مبدأ الدولة الفلسطينية، وقد يشيع حالة من التفاؤل بشأن مستقبل القضية الفلسطينية في نظر الكثير من المراقبين، ولكن القراءة السياسية لهذه المواقف بمعزل عن السياقات التاريخية والأسس التي يقوم عليها المشروع الصهيوني من شأنها أن توقع الكثيرين في الارتجال.
إن
الموقف الثابت لدى الكيان الصهيوني هو الحيلولة دون قيام أي دولة فلسطينية بمختلف
الأساليب، وهذا حلم قديم كرسه "آباء" الكيان الأولون الذين أوقفوا
مشاريع الاستيطان في فلسطين خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين.
ويتراوح الموقف الصهيوني من الدولة الفلسطينية بين الشروط التعجيزية والرفض
القاطع، وبين هذين الموقفين يحافظون على معادلة صارت معروفة، وهي "لا للدولة
الفلسطينية ولا لوقف الحديث عنها".
أما
من حيث الشروط، فإن قادة الكيان الصهيوني منذ قيامه إلى اليوم يشترطون أن تكون
الدولة الفلسطينية مجردة من السلاح، وبدون صلاحيات سياسية أو اقتصادية، وبدون
سياسة خارجية مستقلة عن سياسة الكيان، وبجهاز أمني وظيفته حفظ أمن
"إسرائيل" مما تسميه الإرهاب، أي التصدي لأي مقاومة ضد الاحتلال، مهما
كانت تصرفاته تجاه الدولة المفترضة.
وبهذا المفهوم فإن الصهاينة يرون أن الدولة الفلسطينية ستكون بمثابة جدار أمني آخر يحيط بالكيان ويحرسه من الجانب الغربي، ولا تختلف مهمته عن مهمة الجدار الأمني الذي بنوه حول غزة. وبهذا الاعتبار يمكن لـ"إسرائيل" أن تنقض أي اتفاق حول الدولة مستقبلًا، أو أن تحتلها من جديد، كلما رأت أن أمنها معرض للخطر.
ويروي رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق شيمون بيريز، أحد كبار قادة الكيان الصهيوني الذين أشرفوا على وضع أسسه، في مذكراته الصادرة عام 2017 بعد موته بعام تحت عنوان "لا شيء مستحيل"، أنه مباشرة بعد توقيع اتفاقية غزة-أريحا مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، وانتقال ياسر عرفات من تونس إلى فلسطين وإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، حصلت عملية تفجير في تل أبيب، فقال قولته: "لقد انتهت غزة أريحا"، ولم يمر على توقيع الاتفاق أكثر من أسبوع.
وإلى جانب الهواجس الأمنية لدى الكيان الصهيوني، التي تعد رقم واحد في صناعة قراره السياسي، هناك الجوانب المتعلقة بالسلطة داخل الكيان، بحيث إن توقيع حكومة معينة على أي اتفاق مع الجانب الفلسطيني لا يضمن على الإطلاق احترام الحكومة التالية له، على نحو ما تؤكده مئات الأدلة في الصراع الطويل مع الصهاينة.
وبالرغم من الحماس الدبلوماسي الذي أبدته العواصم الأوروبية في الآونة الأخيرة، فإن لا شيء في الأفق يوحي بأن هذه العواصم لديها نفس الرؤية للدولة الفلسطينية أو نفس الشروط، وما هي إلا دول تحاكي الشروط الصهيونية، لأن الاعتراف بالمبدأ لا يعني الإقرار بوجهة النظر الفلسطينية. فجميع هذه الدول لديها نفس المقاربة التي لدى الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية، أي إعطاء أمن الكيان الصهيوني الأولوية على ما عداه من القضايا، ومحاربة ما تسميه الإرهاب، وهي المقاربة التي تمنع هذه الدول من تأييد وجهة النظر الفلسطينية أو التعاطف مع الشعب الفلسطيني في السيادة على قراره وفي تقرير مصيره بحرية.
إن
الحقيقة التي يجب ألا تغيب عن أذهاننا هي أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية اليوم
ليس نقطة النهاية بل بداية جديدة مفتوحة، يجري خلالها جر الفلسطينيين في مسلسل من
المفاوضات دون آفاق. وما يُخشى هو أن تكون هذه المواقف اليوم محاولة جديدة للتهدئة
على الجانب الصهيوني ربحًا للمزيد من الوقت. فقد حصل في بداية التسعينيات أمر شبيه
بما يحصل اليوم، إذ بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية التي هزت استقرار الكيان
الصهيوني عام 1987، تنادت الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية إلى حل
القضية الفلسطينية وإنشاء دولة للفلسطينيين، وتم عقد مؤتمر مدريد عام 1991،
والنتيجة هي أن الاحتلال ازداد تغولًا ونجح في تشتيت القرار الفلسطيني، واليوم بعد
طوفان الأقصى الذي هز ثقة الكيان في قدراته، يتم تكرار نفس السيناريو.