حقيقة الحسد.. وعلاج الحاسد والمحسود

رقية محمد

24 يناير 2025

3937

الحسد مرض قلبي خطير، مدمر لدين العبد ودنياه، فضلًا عما يسببه من أذى للآخرين وبغضاء وفرقة بين الناس، وقد امتلأ القرآن والسُّنة وكلام الصالحين بالتحذير منه، وكيفية مجابهته، وطرق منع حدوثه من الحاسد، وفي هذا المقال نتعرض لذلك.

تعريف الحسد

قال ابن منظور: «حسده يَحْسِدُه ويَحْسُدُه حسداً، وحسده إذا تمنى أن تتحول إليه نعمته وفضيلته أو يسلبهما هو منه» (لسان العرب لابن منظور، 3/ 148)، وقال الجرجاني: «الحسد تمني زوال نعمة المحسود إلى الحاسد» (التعريفات للجرجاني ص117)، وهذا التعريف بمفرده يبين كم يخالف الحسدُ طبيعةَ المسلم السوية من حب الخير لإخوانه المسلمين.

نفسية الحاسد ودوافعه

كل فعل يفعله الإنسان فهو صادر عن دوافع، والناظر في نفسية الحاسد ودوافعه يجد الآتي:

- الإعجاب بالنفس، فالحاسد يرى أنه الأجدر بكل نعمة بخلاف غيره، ومن شدة قبح هذه النفسية قد وصف الله بها المناوئين للأنبياء، قال الله تعالى: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (البقرة: 90).

- ضعف الإيمان بقضاء الله وقدره، فالحاسد حين يتمنى زوال النعم عن غيره وكأنه يعترض على حكمة الله وما قدره لعباده من الأرزاق، قال الله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) (النساء: 54)، وقال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف: 32).

- التنافس على الدنيا وحب الرياسة والظهور، فيخاف الحاسد من فوات حظه الدنيوي بأن يحقد على غيره، مثلما حدث مع إخوة يوسف عليه السلام حينما شعروا بمنافسته على مكانتهم لدى أبيهم، يقول الله تعالى: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (يوسف: 8).

- خبث النفس، مثل الذي حدث من قتل ابن آدم لأخيه، قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27).

- معاداة نعمة الله، قال عبد الله بن مسعود: لا تعادوا نعم الله، قيل له: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله. (بهجة المجالس لابن عبد البر، 1/ 407).

كيف يُحصِّن المسلمُ نفسَه من الحسد؟ 

وكما حذر الإسلام من الحسد وعواقبه، فإنه كذلك قد بين طرق الوقاية منه، ومنها:

- الاستعاذة بالله منه، بقراءة القرآن والمواظبة على الأذكار، وقد أنزل الله آيات تدفع شر الحاسد، مثل قوله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ {1} مِن شَرِّ مَا خَلَقَ {2} وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ {3} وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ {4} وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (الفلق)، وعن أبي سعيد الخدري أنَّ جِبريلَ أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: «يا محمَّدُ، اشتكَيتَ؟ فقال: نعم، قال: باسمِ اللَّهِ أرقيك من كُلِّ شيءٍ يؤذيك، من شَرِّ كُلِّ نفسٍ أو عينِ حاسِدٍ اللَّهُ يشفيك، باسمِ اللَّهِ أرقيك» (رواه مسلم).

- اليقين بأن المرء لن يصيبه شيء إلا بإذن الله، وقد جاء في الوصية النبوية لعبدالله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ» (رواه الترمذي، وأحمد، وصححه الألباني).

- كتمان النعم وعدم التحدث بها إلا لمن يثق به وبإيمانه، وقد وصى يعقوبُ يوسفَ عليهما السلام فقال له: (يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (يوسف: 5).

- تقوى الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه، فهي سبب لحفظ المرء من الحسد، قال تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران: 20).

- التوكل على الله حق توكله، فيكفيه الله كل ما أهمه، مثل قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: 3)، فهذا اليقين والطمأنينة بقلب المسلم تكفيه شر الحسد.

- التوبة من الذنوب، فالمعاصي سبب في المصائب وتسليط الأعداء، يقول الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (الشورى: 20).

كيف يعصم المرء نفسه عن أن يكون حاسدًا؟

وإن تلك المعصية الردية لا بد أن يسعى المرء لتجنبها حتى لا يبوء بإثمها الكبير، وذلك يكون بالعلم عن الله وتدبر القرآن؛ ليقوى إيمانه بالقضاء والقدر، ويرضى بما قسمه الله له، وأن يعلم حقارة الدنيا وهوانها؛ فلا يتطلع لما في يد غيره، ولا ينافسه على الدنيا، وأن يتفكر في نِعَم الله عليه؛ فلا يحسد غيره على نعمة لم يُعطها، وأن يزكي نفسه دائمًا؛ فيدفع عنها وساوس الشيطان التي تؤزه؛ فلا يسترسل مع دوافع نفسه إلى حسد الناس، وأن يصبر على ما قدره الله له من أحوال، ويتيقن بأن كل الناس مبتلى ظهر له هذا أم خفي عليه، وأن يدعو بالبركة إذا رأى ما يعجبه في نفسه أو غيره، قال الله تعالى: (وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه) (الكهف: 39).

إن الحسد من أخطر الآفات القلبية التي تهدد استقرار الفرد والمجتمع، وقد وضع الإسلام علاجاً شاملاً لهذا الداء، فلا بد للمرء من الالتزام بما جاء به الشرع حتى ينعم بالاستقرار النفسي ويطمئن قلبه ويحيا حياة طيبة، ومن ترك نفسه للحسد ضاقت معيشته وصاحبه القلق والهم في يومه وليله.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة