«التدين الجديد».. بين الشريعة والواقع الصعب

حالة من الاغتراب الثقافي تجتاح العالم العربي والإسلامي؛ وذلك إثر وقوع تحولات جذرية في أشكال التدين ربما تتعارض بشكل كبير مع مقاصد الدين الإسلامي الذي تنزل من أجلها، وصار «التدين الجديد» مصطلحاً حاضراً يستعرض المظاهر المستحدثة التي لا تتطابق مع مجموعة القيم الإسلامية المتفق عليها من جمهور علماء المسلمين.

وتتأرجح تلك التحولات بين محاولات التدين الفردي في ظل ظروف اقتصادية وثقافية شديدة التعقيد والتداخل مع ثقافات أخرى واردة تحيط بالمسلم وتحاصره في بيته عبر وسائل الإعلام الفضائية، وفي وسائل التواصل بكافة أشكالها وصورها.. وردود فعل فكرية عنيفة نتيجة الانحلال الأخلاقي الكبير والناتج عن التقليد الأعمى واستقبال ثقافة الاغتراب دون تمييز أو انتقاء؛ فنتج هذا النوع من التدين السطحي الذي لا يمثل في الإسلام إلا قشوراً ظاهرية، ولا تعبر عن قناعات حقيقية؛ ما أدى لغياب الصورة الذهنية للإسلام الوسطي عند الأجيال الجديدة، فما مفهوم «التدين الجديد»، وما أبعاده وأسبابه؟

«التدين الجديد» ظاهرة اجتماعية أيديولوجية تعبر عن الانتقال بمفهوم الالتزام بالشريعة حسب مفهوم جمهور العلماء، لمفاهيم أكثر مرونة تتسم بالانتقائية من أحكام الدين حسب ما يتماهى مع رغبات النفس وهواها.

ويعرفه الباحث المغربي عبدالله العروي بأنه تحوّل في الوعي الديني، يجمع بين الالتزام بالقيم العامة للدين، ورفض الانضباط الصارم للطقوس أو الفقه التقليدي(1).

الشباب.. والخطاب الديني المعاصر |  Mugtama
الشباب.. والخطاب الديني المعاصر | Mugtama
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تجتاح العالم كله، وأ...
mugtama.com
×

أسباب نشوء ظاهرة «التدين الجديد»

ارتبط وجود تلك الظاهرة بعدة تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية كبيرة، دفعت العديد من أوساط الشباب لنبذ الكثير من أحكام الدين في محاولة للتحرر منه تحت ستار تدين جديد؛ هروباً من اللوم المجتمعي المحتمل، أو لوم الضمير الديني لدى الفرد، ومن هذه الأسباب التي أدت لظهورها:

1- انتشار ظاهرة الدعاة الجدد، ويعتبر ذلك من أهم انتشار ظاهرة التدين الجديد، وهم غالباً من أوساط اجتماعية فوق المتوسطة، وغير دارسين للعلوم الشرعية إلا من قراءات متناثرة تخيروها بأنفسهم دون توجيه من علماء الدين المتخصصين، يحملون في جعبتهم الوعظ العاطفي دون التعريف بأحكام الدين، أو كما قيل عنهم: إن هدفهم الرئيس تصحيح القيم الأخلاقية لدى الأفراد فيما يتعلق بسلوكياتهم اليومية(2).

2- انتشار الفضائيات منذ التسعينيات:

ساهم انتشار الفضائيات في نشر فكر الدعاة الجدد ليدخل معظم بيوت المسلمين، ويجد قبولاً عند الكثيرين من رافضي التكليف المشدد كما يرونه في نظرهم، فتم التهاون من خلاله مع كثير من المعاصي، والكثير من التكاليف، واكتفى بالتدين القلبي مع فتح الباب على مصراعيه للتعامل مع ثقافة الآخر بغير تحفظ تحت دعاوى الانفتاح على الآخرين، وأنه من تكاليف الإسلام.

3- الظروف الاقتصادية الطاحنة، ومثل العامل الاقتصادي سبباً محورياً في انتشار ظاهرة التدين الجديد، حيث يعاني قطاع كبير من الشباب من البطالة، وتردي الأوضاع الاقتصادية بما فيها الخدمات المقدمة؛ ما دفع الكثيرين منهم إلى التمسك ببعض جوهر الدين، دون التمسك بالمظاهر الخارجية له، ظناً منهم أن ذلك ييسر أمورهم الحياتية اليومية، دون أن يقف التدين الحقيقي عقبة في سبيل الحصول على فرص عمل ملائمة، فيرى الباحث سعيد البنكراد أن التدين الجديد آلية دفاع ثقافية في وجه اختلالات الواقع(3).

4- انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والانفتاح الرقمي؛ ما ساهم في نقل الثقافة الغربية إلى عقر دور المسلمين دون عمليات انتقاء على الإطلاق، ودون رقابة تذكر من الآباء والمربين والمعنيين، فالسماوات المفتوحة لا تميز بين رسائل موجهة عن قصد، ورسائل عشوائية تفعل فعلها في صمت.

التدين المعاصر.. بين الصدق والهوى |  Mugtama
التدين المعاصر.. بين الصدق والهوى | Mugtama
التدين ظاهرة معاصرة نشأت كرد فعل لحالة التماهي مع...
mugtama.com
×

ملامح وسمات التدين الجديد

1- يتسم التدين الجديد بالجزئية، فهو يقوم بالاختيار من بين أحكام الدين ما يتلاءم مع الظروف الفردية دون وضع اعتبار للحكم الشرعي من الحل أو التحريم.

2- التركيز على الجانب النظري الروحي والأخلاقي، فحديث الدعاة الجدد كان منصباً حول قيم الصدق والتسامح ومحبة الخير للجميع دون التركيز مع الشعائر التعبدية، فأصبحنا نجد من يدعي طهارة القلب وصدق اللسان رغم تعاطيه للمحرمات قائلاً: إن الإيمان في القلب، وأن الله عز وجل ينظر إلى القلوب لا إلى الصور، وهو حق أريد به باطل.

دعاة «مودرن»! |  Mugtama
دعاة «مودرن»! | Mugtama
كلمة «مودرن» (modern) إنجليزية الأصل؛ ومعناها عصري...
mugtama.com
×

التدين الجديد.. بين أحكام الشريعة والواقع المفروض

يرى البعض أن التدين الجديد نوع من التكيف مع الواقع مع القيود الكثيرة المفروضة على التدين الأصيل، سواء كانت هذه القيود من حكومات متعاقبة، أو لرغبة غربية في نزع تفعيل الدين في نفوس الشباب العربي المسلم، وتحويله لمجرد قيم مجردة يتشدق بها من يريد، وليس ذلك تأييداً لنظرية المؤامرة كما قد يحسب البعض، وإنما هو طبيعة للصراع القائم بين الحق والباطل إلى قيام الساعة.

وهو نوع من التمرد وليس التكيف، تمرد على شريعة الإسلام، تمرد على التكاليف، تمرد على المسؤولية تجاه الدين ورسالته للعالمين.

وقد جاءت الشريعة لتحقيق جملة من المقاصد؛ وهي حفظ النفس والدين والعقل والعرض والمال، والتدين الجديد لا تدخل في دائرته إلا بعض هذه المقاصد وليس جميعها؛ فنجد رخصة في سبيل حفظ النفس تمس الدين ذاته، ونجد تساهلاً فيما يخص العرض إذا تعلق الأمر بالموت في سبيله، وفي هذا تفريغ للإسلام من مضمونه ومن مقاصده، وما هو إلا تبعية للنفس وهواها، ومن خطورة ذلك النوع من الخنوع الجديد أنه يقدم الذات على النص الشرعي، وتفكيك منظومة التشريع من إجماع للأمة وخلافه، وتحول الدين لمظاهر فردية كل يفهمها حسب هواه ومصالحه وركونه.

وللتصدي لتلك الظاهرة في مجتمع ما، يجب أولاً معرفة أسبابها بدقة كي يتسنى للمعنيين العلاج وإرجاع الأمور لنصابها، فهناك فرق بين أن يكون السبب تقصيراً فردياً وتراخياً في التعامل مع أحكام الشريعة، أم أنه عجز عن إقامة الدين نظراً لظروف قاهرة عن إرادة المسلم ذاته، أو أن السبب يرجع إلى عدم الفهم، أو الفهم المغلوط، ولكل حالة طريقتها في الحل والتعاطي من قبل المعنيين.

إن ظاهرة التدين الجديد هي ظاهرة معقدة، تختلف أسبابها من مجتمع مسلم لمجتمع آخر، ويجب التعاطي معها بحذر وجدية شديدة ولا يجب التغافل عنها أو إهمالها من قبل علماء الأمة المعتبرين، يلزمها التعامل معها بعلم ومهنية وتحليل للواقع وقراءة جيدة له وذلك في ضوء التغيرات العالمية المحيطة والإقليمية الواقعية، قبل أن تنفلت الأمور وتضيع معالم الدين ويتحول لحالة لاهوتية لا تليق بالإسلام ومقاصده التي وضعها الله تعالى.





____________________

(1) العروي، السنة والإصلاح، المركز الثقافي العربي 2008، ص 55.

(2) مقالة الشباب المتدين بين عمرو خالد وعمرو دياب، لعاصف بيات على موقع إسلام أون لاين.

(3) مجلة فكر ونقد، العدد (63)، 2005م.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة