احتساب الأجر في الأعمال الدنيوية.. عبادة تغيب عن كثير من القلوب

الحياة الدنيا
ميدان واسع يتقلب فيه الإنسان بين عمل ومعاش، وسعي ورزق، وتدبير شؤونٍ لا تنقطع ما
دام في جسده نفس.
وقد يظن البعض
أن هذه الأعمال المعيشية محصورة في نطاق الأمور الدنيوية البحتة، لا وزن لها في
ميزان الآخرة، بينما الحقيقة أن الإسلام وسَّع دائرة العبادة حتى شملت كل حركة
صادقة وكل نية صالحة، إذا أحسن المرء فيها النية واحتسب الأجر من الله تعالى.
ومن هنا تأتي
أهمية استحضار معنى الاحتساب عند القيام بالأعمال الدنيوية، لأنه يحوِّلها من
أفعال عابرة إلى قُرَب جليلة، يكتب الله بها الحسنات ويرفع بها الدرجات.
مفهوم الاحتساب
الاحتساب في
اللغة مأخوذ من «الحَسْب»؛ أي: العدّ والإحصاء، وفي الاصطلاح الشرعي: طلب الأجر
والمثوبة من الله تعالى عند القيام بعملٍ ما، سواء كان عبادة خالصة أو عملاً
دنيوياً مباحاً، فالاحتساب يجعل العمل المباح عبادة، ويحوِّل الجهد المعتاد إلى
قربى، ويرفع الكدح من مجرد جهدٍ لأجل لقمة العيش إلى سعي في سبيل الله.
الأدلة الشرعية على شمولية النية والاحتساب
جاءت نصوص
القرآن الكريم لتقرر أن العمل لا يقبل عند الله إلا إذا كان خالصًا له، قال تعالى:
(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء) (البينة: 5).
والإخلاص يتضمن
أن ينوي الإنسان بعمله وجه الله، حتى لو كان في أمور الدنيا، ومن أوسع النصوص
دلالة على هذا قوله سبحانه: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162} لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ
أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام)؛ فالمحيا -أي الحياة بما فيها من أعمال ومعاش– يمكن أن
يكون كله لله إذا صَحّت النية، بل جعل الله السعي على الرزق في الأرض داخلاً في
منظومة العبادة؛ (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا
فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً
لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: 10).
فالانتشار للعمل
والكسب بعد الصلاة لم يُخرج المسلم من العبادة، بل قُرن بذكر الله ليدل على أن
الكسب نفسه عمل يثاب عليه إذا قصد به وجه الله.
وقرر النبي صلى
الله عليه وسلم قاعدة عظيمة حين قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما
نوى» (متفق عليه)؛ فمن نوى بعمله الدنيوي نفع نفسه وأهله واحتساب الأجر عند الله،
كُتب له ذلك.
بل أوضح صلى
الله عليه وسلم أن حتى النفقة على الأهل تصبح صدقة، إذ قال لسعد بن أبي وقاص: «وإنك
لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت عليها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك» (متفق
عليه).
وفي حديث آخر
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل
الله أو القائم الليل الصائم النهار» (متفق عليه)؛ فهنا يجعل النبي صلى الله عليه
وسلم السعي على الأرملة والمسكين –وهو عمل دنيوي في ظاهره– في منزلة عظيمة مساوية
لأجلِّ الطاعات.
الاحتساب يبدل ميزان الحياة
إن احتساب الأجر
يحوِّل تفاصيل الحياة اليومية إلى رصيد من الحسنات:
- العامل في
مصنعه إذا نوى كف نفسه عن الحرام ونفع المسلمين بعمله؛ أثيب.
- الموظف في
مكتبه إذا نوى خدمة الناس بأمانة وعدل؛ كان في عبادة.
- الأم في بيتها
إذا نوت برعايتها لأولادها حفظهم وإعانتهم على طاعة الله؛ أُجرت على كل لحظة.
- الطالب في
جامعته إذا قصد بالعلم خدمة الأمة والارتقاء بها؛ كُتب له الأجر.
وبذلك تتحول
الحياة كلها إلى ميدان عبادة ممتد.
أثر الاحتساب في تهذيب النفس
الاحتساب يعمّق
الرقابة الداخلية، فيجعل الإنسان يتعامل مع عمله الصغير والكبير بعين الإحسان؛
لأنه يستحضر أن الله هو الذي يجزيه، وهو كذلك يخفف من ثقل المشاق، فالذي يحتسب
الأجر عند الله لا يضجر من التعب، بل يرى في كل جهد طريقاً للقرب، وقد قال صلى
الله عليه وسلم: «عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا
للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً
له" (رواه مسلم).
فالاحتساب يجعل
المؤمن رابحاً في جميع أحواله، لا يخسر جهده ولا يفنى تعبه.
لماذا نغفل عن الاحتساب؟
من آفات عصرنا
أن كثيرًا من الناس فصلوا بين العبادة والعمل، فجعلوا المسجد وحده ميدان العبادة،
وأغفلوا أن السوق والمكتب والمصنع والجامعة يمكن أن تكون ميادين أجرٍ عظيم إذا
نُويت فيها النية الصالحة، وقد نبه العلماء إلى أن المسلم يمكن أن يعيش عمره كله
في عبادة متصلة إذا استحضر النية في أعماله اليومية.
إن الاحتساب عند
القيام بالأعمال الدنيوية ليس ترفًا إيمانيًا، بل هو منهج حياة يحوّل العمر إلى
عبادة ممتدة، ويجعل المسلم حاضر القلب في كل تفاصيله، رابطًا دنياه بآخرته، ومن
رزق هذا المعنى فقد فاز بفضل الله، كما قال سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ
أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (النحل: 97).
فالحياة الطيبة
إذن ليست بكثرة المال أو المنصب، وإنما بحسن النية وصدق الاحتساب، والله عند حسن
نيات عباده وهو أكرم الأكرمين.