اقتصاد الفقراء من المواجهة إلى التنظيم (2)

سعد العتيبي

04 سبتمبر 2025

393

بقلم : سعد مرزوق العتيبي 

لم يعد الحديث عن “اقتصاد الفقراء” مجرد رصد لظاهرة اجتماعية، بل أصبح موضوعًا استراتيجيًا في صلب التنمية العالمية. فالفقر ليس حالة فردية معزولة، بل ظاهرة واسعة النطاق تؤثر في حركة الأسواق، والسياسات العامة، والاستقرار الاجتماعي. ووفقاً لتقارير البنك الدولي (2024)، يعيش أكثر من ٧٠٠ مليون إنسان على أقل من 2.15 دولار يومياً، فيما يعيش نصف سكان العالم تقريباً دون خط الفقر الأوسع عند 6.85 دولار يومياً. هذه الأرقام لا تعكس مجرد عجز في الدخل، بل تكشف وجود اقتصاد كامل يعمل بآلياته الخاصة، وينبغي التعامل معه بجدية.

اقتصاد يبتكر من رحم الحاجة

في ظل ندرة الموارد، يبتكر الفقراء آليات للبقاء: من إعادة التدوير البسيط للمواد، إلى تأسيس شبكات اقتصادية قائمة على الثقة والتكافل. كما أوضح بانيرجي ودوفلو في كتاب Poor Economics، فإن الفقراء ليسوا مجرد ضحايا، بل يملكون استراتيجيات حياة معقدة تتضمن تقسيم الموارد المحدودة، الموازنة بين الغذاء والتعليم، والاعتماد على الاقتصاد التعاوني. هذه الابتكارات تمثل رأسمالًا اجتماعيًا لا ينبغي تجاهله.

مواجهة أم تنظيم؟

الخطأ الشائع في السياسات التنموية هو النظر إلى اقتصاد الفقراء بوصفه مشكلة ينبغي القضاء عليها. لكن الواقع يؤكد أن هذا الاقتصاد يشكل القطاع غير الرسمي الذي يضم أكثر من ٦٠٪ من القوى العاملة في الدول النامية. تجاهله أو محاربته يؤدي إلى تفشي العشوائية وفقدان العدالة. أما تنظيمه عبر:

تبسيط التراخيص والإجراءات.

إتاحة التمويل الأصغر والقروض الميسّرة.

إدماج العاملين في التأمينات الاجتماعية والرعاية الصحية.

الاعتراف بالمشاريع الصغيرة كجزء من الاقتصاد الرسمي.

فإنه يحول هذا الاقتصاد إلى قوة إنتاجية تدعم النمو وتحقق الاستقرار.

الاقتصاد في زمن الأزمات

الأزمات العالمية أثبتت أن اقتصاد الفقراء هو الأكثر صمودًا. خلال جائحة كورونا، على سبيل المثال، دخل ما بين ١٤٣ و١٦٣ مليون شخص إضافي دائرة الفقر، لكن الفقراء تمكنوا من إعادة ترتيب حياتهم عبر التكافل والاعتماد على شبكات الجيران والأسواق الشعبية. كذلك، في مناطق النزاعات مثل غزة واليمن، يبرز هذا الاقتصاد في أشكال بسيطة مثل مقايضة السلع، أو الاعتماد على الإنتاج المحلي الصغير لتأمين الحد الأدنى من المعيشة.

من البقاء إلى التمكين

التحدي الأساسي ليس في بقاء اقتصاد الفقراء، بل في تحويله إلى اقتصاد للتمكين. المؤسسات الخيرية والحكومات يمكنها أن تقود هذا التحول من خلال:

الاستثمار في المشاريع متناهية الصغر وربطها بالأسواق.

تدريب الفقراء على مهارات حديثة تزيد إنتاجيتهم.

دعم المبادرات المجتمعية التي تعزز التكافل والاستدامة.

تحويل المساعدات الإنسانية إلى رأسمال أولي لمشاريع إنتاجية.

إن تجربة مشروع Voices of the Poor الذي وثّق آراء أكثر من ٤٠ ألف شخص في ٥٠ دولة تؤكد أن الفقراء لا يبحثون فقط عن المساعدات، بل عن الكرامة والقدرة على الإنتاج.

البعد الأخلاقي والإنساني

تنظيم اقتصاد الفقراء ليس مجرد خيار اقتصادي، بل التزام إنساني. فالفقر يولد الهشاشة، والهشاشة تفتح الباب أمام النزاعات والهجرة القسرية. لذا، فإن إدماج اقتصاد الفقراء في التنمية يحقق العدالة الاجتماعية ويعزز السلم الأهلي. وهو في الوقت نفسه استثمار في المستقبل، لأن الفقراء يمثلون شريحة ضخمة من المستهلكين والمنتجين إذا ما أُتيحت لهم الفرص.

أخيراً ،، أقول

إن اقتصاد الفقراء حقيقة قائمة لا يمكن محوها. محاولة مواجهته تؤدي إلى فوضى اقتصادية ومجتمعية، بينما تنظيمه يعني تحويله من اقتصاد بقاء إلى اقتصاد تمكين. إنه ليس عبئًا على التنمية، بل فرصة لإعادة صياغة نموذج اقتصادي أكثر عدلاً وإنسانية. هنا تبرز مسؤولية الحكومات والمؤسسات الخيرية معًا: أن ترى في الفقراء شركاء في صناعة الغد، لا مجرد متلقين للمساعدات.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة