«الوقف» وإدارته.. فهم شامل لأحكام الملكية والنظارة وشراكة القطاع الخاص

«الوقف»، تلك المؤسسة العريقة التي اعتنى بها المسلمون عبر تاريخهم، امتثالاً لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة والتابعين، يمثل دعامة أساسية للتكافل الاجتماعي والتنمية المستدامة، وهو في حقيقته صدقة تطوعية مؤبدة، وهو «حبس الأصل وتسبيل المنفعة»؛ أي تخصيص مال معين (عقار، أسهم، نقود) ليُصرف ريعه في أوجه الخير والبر، مع بقاء الأصل محبوساً لا يباع ولا يوهب ولا يورث.

ولكن، لكي يحقق الوقف مقاصده النبيلة ويستمر نفعه، تبرز أهمية الإدارة السليمة والواعية، فمن له حق إدارة الوقف؟ وهل يجوز نقل ملكيته أو إدارته للقطاع الخاص؟

«الوقف» مؤسسة تتميز بخصوصيتها وأحكامها الشرعية والقانونية الهادفة إلى استمرارية النفع الخيري

إدارة الوقف، أو ما يُعرف بـ«النظارة على الوقف»، مسؤولية كبرى لاستمرارية الوقف وتحقيق مقاصد الواقف، قد تكون لشخص طبيعي أو اعتباري (مؤسسة)، وقد استقر في الفقه الإسلامي القول بوجوب قيام إدارة الوقف بالأعمال التي من شأنها الحفاظ على الموقوف، وتضمن بقاءه واستمراره كعمارة الوقف بإصلاحه وصيانته والعناية به، وكذلك تحصيل غلته، وتنفيذ شروط الواقفين، وتثمير الوقف بحسب طبيعة المال الموقوف، ويُحدد حق الإدارة بناء على عدة اعتبارات شرعية وقانونية، منها:

- شرط الواقف: في الأصل يُعتبر شرط الواقف الفيصل في تحديد ناظر الوقف، فالواقف: وهو الشخص الذي يوقف المال، له الحق الكامل في تحديد من يتولى إدارة وقفه في وثيقة الوقف (الوقفية).

وذهب جمهور الفقهاء إلى أن شرط الواقف كنص الشارع، يجب الالتزام به ما لم يخالف نصاً شرعياً صريحاً أو المصلحة الراجحة للوقف(1)، وإذا لم يعين الواقف ناظراً محدداً، أو توفي الناظر المعين ولم يشترط الواقف من يخلفه، فإن حق النظارة ينتقل إلى:

1- المستحقين: إذا كان الوقف على أفراد أو جهات معينة (كالوقف الأهلي)، فقد تنتقل النظارة إلى الأصلح من ذرية الواقف أو المستحقين.

2- القاضي أو الجهة الحكومية المختصة: في كثير من الدول الإسلامية، تتولى وزارة الأوقاف أو الجهات الرسمية ذات الصلة الإشراف على الأوقاف الخيرية وإدارتها، خاصة إذا لم يكن هناك ناظر معين أو إذا تعطلت شروط الواقف، في مصر على سبيل المثال، تختص وزارة الأوقاف المصرية بإدارة الأوقاف الخيرية، إلا إذا اشترط الواقف النظر لنفسه أو لأبنائه.

جمهور الفقهاء: شرط الواقف كنص الشارع يجب الالتزام به ما لم يخالف نصاً شرعياً أو المصلحة الراجحة للوقف

- شروط ناظر الوقف: لضمان حسن الإدارة والأمانة، يجب أن تتوفر في ناظر الوقف مجموعة من الشروط الأساسية، أبرزها:

1- العدالة والأمانة: أن يكون موثوقاً في دينه وخلقه وقادراً على حفظ مال الوقف وتنميته.

2- الكفاية: أن يمتلك القدرة والخبرة اللازمة لإدارة الوقف وتنميته بما يحقق مصلحته.

3- البلوغ والعقل: أن يكون بالغاً عاقلاً.

4- الإسلام: يشترط أغلب الفقهاء أن يكون ناظر الوقف مسلماً، خاصة إذا كان الوقف على جهات خيرية إسلامية كالمساجد.

هل يجوز نقل ملكية الوقف أو إدارته للقطاع الخاص؟

هذا السؤال يحمل تفصيلاً مهماً يميز بين نقل الملكية ونقل الإدارة:

- نقل ملكية الوقف (البيع أو الاستبدال): تنتقل ملكية رقبة الموقوف إلى ملك الله تعالى كما ذهبت بعض المذاهب، وعليه فالواقف نفسه لا يملك التصرف في الوقف تصرف الأملاك، وكذلك ناظر الوقف أو القاضي أو أي جهة تتولى إدارة الوقف، فالأصل في الوقف هو حبس الأصل وتسبيل المنفعة؛ أي أن الوقف لا يُباع ولا يوهب ولا يُورث، وهذا هو مبدأ التأبيد في الوقف والقاعدة الأساسية التي تضمن استمرارية الوقف ونفعه للأجيال المتعاقبة(2).

ومع ذلك، هناك حالات استثنائية جداً يجوز فيها استبدال الوقف (أي بيعه وشراء وقف آخر بدلاً منه) أو بيعه بشكل مطلق في بعض المذاهب، وذلك بشروط صارمة وبعد إذن القضاء أو الجهة المختصة، من أبرز هذه الحالات(3):

1- تعطل منافع الوقف: إذا خرب الوقف أو تعطلت منافعه تماماً، أو قلّت عوائده بشكل كبير بحيث لم يعد يحقق المقصود منه.

2- المصلحة الراجحة: إذا كان استبدال الوقف يؤدي إلى مصلحة أكبر للوقف والموقوف عليهم، كأن يُباع عقار قديم لا يدر نفعاً ويُشترى بدلاً منه عقار أكثر ريعاً أو موقعاً أفضل.

3- شرط الواقف: إذا اشترط الواقف نفسه في وثيقة وقفه جواز بيع الوقف أو استبداله عند الحاجة أو المصلحة.

ملكية رقبة الموقوف تنتقل إلى ملك الله وعليه فالواقف نفسه لا يملك التصرف في الوقف تصرف الأملاك

بناء على ذلك، لا يجوز نقل ملكية الوقف إلى القطاع الخاص كبيع تجاري بحت، إلا ضمن هذه الشروط الاستثنائية التي تهدف إلى تحقيق مصلحة الوقف ذاته، وليس لتحقيق الربح الخاص للقطاع الخاص؛ بما يعني أن الهدف في هذه الحالة هو تحويل الوقف إلى أصل آخر يحقق مقاصده بشكل أفضل، وليس إخراجه من الوقفية.

- نقل إدارة الوقف للقطاع الخاص: تختلف هذه المسألة عن نقل الملكية، حيث يمكن التعاقد مع جهات من القطاع الخاص لإدارة أموال الوقف أو استثمارها بما يحقق أهداف الوقف وتنميته وزيادة منافع الموقوف وعوائده، وذلك تحت إشراف الناظر الشرعي أو الجهة الحكومية المختصة (مثل وزارة الأوقاف).

على سبيل المثال، يمكن لهيئة الأوقاف التعاقد مع شركات متخصصة في إدارة العقارات أو الاستثمار لتتولى تنمية أصول الوقف، ولكن تبقى الولاية والنظارة العليا للوقف للجهة الرسمية أو الناظر الشرعي، ولا تنتقل ملكية الوقف أو حق التصرف المطلق فيه للقطاع الخاص.

الهدف من إشراك القطاع الخاص في الإدارة والاستثمار هو:

1- تحسين كفاءة الإدارة: الاستفادة من الخبرات المتخصصة في إدارة الأصول وتنميتها.

2- تنمية أموال الوقف: تحقيق أقصى استفادة من أصول الوقف لزيادة ريعه وتوسيع نطاق المستفيدين منه.

3- التغلب على التحديات: مواجهة المشكلات التي قد تواجه إدارة الأوقاف التقليدية (مثل نقص الخبرة أو قلة الموارد).

ولكن، يجب أن يتم ذلك بضوابط صارمة تضمن:

1- الحفاظ على أصل الوقف: عدم التفريط فيه أو استغلاله لمصلحة شخصية.

2- تحقيق مقاصد الواقف: أن تكون الإدارة متفقة مع الشروط التي وضعها الواقف والغرض الذي من أجله أوقف المال.

3- الشفافية والمساءلة: حوكمة المؤسسة الوقفية من خلال وجود رقابة دائمة من الجهة المختصة على أداء القطاع الخاص، ونشر معلومات واضحة حول أهداف المؤسسة الوقفية، وكيفية إدارتها(4).

يمكن لهيئة الأوقاف التعاقد مع شركات متخصصة في إدارة العقارات أو الاستثمار لتتولى تنمية أصول الوقف

ولتحقيق أقصى استفادة من هذه الشراكات وتعزيز القدرة الذاتية لإدارة واستثمار الوقف، وحفظ مال الوقف من الاختلاط بالمال العام أو الخاص، يُقترح أن تضم الوزارات والهيئات الرسمية المشرفة على الوقف، كفاءات من علماء الاقتصاد الإسلامي، ومحاسبين متخصصين في المالية الإسلامية، من شأن هذه الكفاءات المشتركة ضمان إدارة فعالة للوقف، بما يحقق التنمية المستدامة لأصوله، ويضمن تحقيق مقاصده الشرعية بمهنية عالية وشفافية تامة.

إن الوقف مؤسسة تتميز بخصوصيتها وأحكامها الشرعية والقانونية الهادفة إلى استمرارية النفع الخيري، إدارته مسؤولية عظيمة تقع على عاتق الناظر الشرعي أو الجهة المختصة، مع إمكانية الاستعانة بالقطاع الخاص في جوانب الإدارة والاستثمار بضوابط صارمة، الهدف الأسمى هو ضمان استمرارية الوقف وتحقيق أقصى استفادة منه لخدمة المجتمع وتحقيق مقاصد الواقف النبيلة.

لذا، من الأهمية بمكان أن يراعى أي تعامل مع الوقف، سواء في ملكيته أو إدارته، هذه الخصوصية، وأن يصب في مصلحة الوقف والموقوف عليهم لضمان تحقيق هذه الأهداف.





___________________________

(1) محمد محمود الجمال. (د. ت)، إدارة واستثمار أموال الوقف في الفقه الإسلامي وأنظمة الإدارة العامة للأوقاف القطرية، مطبوعات الإدارة العامة للأوقاف القطرية، ص 2.

(2) محمود أبو زهرة (1971)، محاضرات في الوقف، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الثانية، 1391هـ، ص 39.

(3) العيّاشي الصادق فدّاد (2008)، مسائل في فقه الوقف، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب- البنك الإسلامي للتنمية، دورة دور الوقف في مكافحة الفقر، نواكشوط 16-18 مارس 2008، ص 25-27.

(4)  أمين عويسي (2024)، تحسين أداء إدارة الوقف من خلال المقاربة بين قواعد الحوكمة وشروط الواقف دروس مستخلصة من نماذج لمؤسسات وقفية معاصرة، الأمانة العامة للأوقاف بدولة الكويت، منتدى قضايا الوقف الفقهية الحادي عشر، في الفترة من 11-13 نوفمبر 2024، ص10.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة