قراءة في كتاب «علم نفس وادي السيليكون».. كشف التلاعب التقني

جمال خطاب

05 نوفمبر 2025

78

كتاب «علم نفس وادي السيليكون» للمؤلفة كاتي كوك مجرد صرخة مكتومة وتحذير وتحليل لما حل بالبشرية وما ينتظرها من آفات ومفاسد التكنولوجيا، وهو ليس مجرد استعراض لتاريخ الإنجازات التكنولوجية أو سرد لقصص النجاح المعتادة، بل هو غوص جريء في التركيبة النفسية وراء أكثر الصناعات تأثيرًا على الكوكب،

وتقدم المؤلفة كوك، بخلفيتها في علم النفس الاجتماعي والنقد الثقافي، تشريحاً مثيراً للمبادئ والدوافع التي تُحرّك قادة الشركات العملاقة في وادي السيليكون، وكيف أصبحت هذه الدوافع هي التي تشكل واقعنا بعمق لم نتخيله في يوم من الأيام.

فك شفرة القوة غير المرئية

الهدف الذي يبدو أن كوك تسعى إليه من خلال هذا الكتاب النقدي إلقاء الضوء على الجانب المظلم والمهمل من الابتكار في عالم التكنولوجيا، لا شك أنها لا تُنكر الإنجازات، ولكنها تتساءل عن الثمن النفسي والبشري الذي سيدفع لهذه الإنجازات، وتحاول كوك تفكيك الأيديولوجية التي تقف وراء وادي السيليكون التي تغلفه بهالة من المثالية التقدمية التي لا تخطئ، لتكشف عن الآليات الاستغلالية التي تعمل في الخفاء.

ولذلك، تُشير كوك في بداية كتابها إلى هذا الهدف بوضوح عندما تقول: إن فهم قوة وادي السيليكون يتطلب ما هو أكثر من تحليل اقتصادي، إنه يتطلب تشريحًا لنفسية أولئك الذين يهيمنون بخفاء من وراء ستار على الوادي ولا يظهرون إلا في ثوب التقدم.

وتُضيف: يكمن الهدف من الكتاب في نزع القداسة عن الأساطير التكنولوجية، وإظهار كيف أن هذه الصناعة ليست مجرد أداة محايدة، بل هي مشروع هيمنة بشري خبيث ذو دوافع انتهازية، هذا التفكيك ضروري لإيقاظ الجمهور من حالة التبعية التكنولوجية غير الواعية.

نماذج تكنولوجية ماكرة

تعتقد كوك أن الجمهور يحتاج إلى فهم أن النماذج التكنولوجية التي يستهلكونها، وهي نماذج ليست وليدة الصدفة وتفتقر إلى النقاء العلمي، بل هي نتاج صراع نرجسي على القوة، مُغلّف بلغة تغيير العالم.

وتُؤكد أننا نعيش الآن ضمن هياكل نفسية صُممت في مختبرات وادي السيليكون؛ وأننا لن نفهم حياتنا الحديثة إلا إذا فهمنا تلك المختبرات، هذا هو لب رسالة الكتاب التي مؤداها الدعوة إلى وعي نقدي بما نستهلكه ونتفاعل معه من تكنولوجيا.

سلاح الخوارزميات

تقول كوك: إن وادي السيليكون قد أتقن تحويل علم النفس البشري إلى نظام ربحي، والشركات لم تعد مجرد شركات تبيع منتجات، بل تبيع إشباعًا فوريًا للرغبات الأساسية، يُصمَم لغرس الاعتمادية عليهم بدلًا من التمكين والاستقلالية، وهذا هو المحور الجوهري في نقدها.

فكوك تُركز على مفهوم التلاعب البنيوي بالبشر حيث يتم تصميم التطبيقات والمنصات لاستهداف نقاط الضعف النفسية والمعرفية لدينا، وتُشير إلى أن الخوارزميات ليست كودًا رياضيًا فحسب، بل هي أدوات نفسية تستغل الـ«FOMO» (الخوف من فقدان شيء ما)، والتحقق الاجتماعي كوقود للاقتصاد الانتباهي، وتقرر بنبرة تحذيرية واضحة أن انتباهنا (كبشر) قد تحول من مورد طبيعي إلى سلعة يتم استخراجها بلا رحمة.

ثم تُقدّم الكاتبة تحليلًا مُقنعًا لكيفية توظيف واستثمار النرجسية الرقمية لدى المستخدمين والقادة على حد سواء، فالقادة يُحرّكهم شعور بالاستثنائية، بينما المستخدمون يسعون للإشباع اللحظي عبر الشاشات.

تقول كوك: إن الرغبة في أن تكون محط أنظار العالم هي العملة الحقيقية التي يدفعها المستخدمون لوادي السيليكون، وفي سياق نقد نرجسية وانتهازية قادة تلك الصناعة، تُعلّق الكاتبة قائلة: لقد أدى جنون العظمة لدى هؤلاء إلى تبرير كل الوسائل، حتى لو كانت وسائل تُدمّر الأسر والأنسجة الاجتماعية.

تشريح سيكولوجية سماسرة وادي السيليكون

كرست الكاتبة جزءاً كبيراً من الكتاب لتحليل النموذج النفسي الذي يُنتج عمالقة التكنولوجيا، وتصف كوك هذا النموذج بأنه خليط من الغطرسة (Hubris)، وعقدة المُنقِذ (Savior Complex)، حيث يرى القادة أنفسهم أوصياء على مستقبل البشرية؛ ما يمنحهم تفويضًا ضمنيًا بتجاوز الأخلاق والمعايير المجتمعية.

ثم تقوم كوك بتفنيد فكرة المُبتكِر العبقري المُنعزل، مُوضحة أن هذا التصور جزء من عملية تسويق ماكرة ضخمة العبقرية التي يُروّج لها سماسرة وادي السيليكون غالبًا ما تكون غطاءً لـ«الاستغلال المُنظّم» تحت ستار «الكفاءة»، وتُشير الكاتبة إلى أن البيئة الداخلية للشركات تُشجع على الاحتراق النفسي (Burnout) كدليل على التفاني، مُحوّلة الالتزام الصحي إلى عبودية طوعية للابتكار.

ومن ثم تُركّز كوك على سمة أساسية في هذا الوسط عندما تقول: إن الدافع العميق للعديد من رواد الأعمال في وادي السيليكون الهروب من الموت، مُعبّرًا عن ذلك من خلال بناء شيء خالد أو لا غنى عنه، هذا التحليل يُعيد تأطير السعي المحموم نحو النمو اللانهائي ليس لهدف اقتصادي بحت، بل لهدف وجودي عميق.

متهمون في أخلاقهم

ولكن النقد الأهم الذي تُوجّهه كوك يتعلق بالعواقب الأخلاقية والنفسية الوخيمة على المستخدمين وعلى المجتمع ككل، وترى الكاتبة أن التركيز الحصري على المقاييس (Metrics) والنمو قد أعمى القادة الرأسماليين عن النتائج البشرية لأفعالهم، وتتهم سماسرة وادي السيليكون بتعمد الإضرار بالمجتمع عندما تقرر أن التقليل من شأن الآثار الجانبية الاجتماعية والأخلاقية ليس مجرد خطأ، ولكنه قرار مُتعمّد لتجاهل أي شيء لا يُترجم إلى نمو ومن ثم إلى أموال ومكاسب تتمثل في أرقام المستخدمين وفي العائدات.

وعند تحليل تأثير وسائل التواصل، تُقدّم كوك حُكمها الواقعي القاسي الذي يكرر اتهامها لسماسرة وادي السيليكون قائلة: لم تُصمَّم هذه الأدوات لتعزيز الروابط الإنسانية، بل لزيادة الوقت الذي يتم قضاؤه أمام الشاشة؛ والنتيجة مزيد من العزلة المُغلّفة بشبكة من الروابط السطحية الهشة.

وتُتابع تحليلها للرقمنة الشاملة لحياة البشر قائلة بمرارة: كلما زادت البيانات التي نُنتجها، زادت دقة النموذج الذي يبنيه وادي السيليكون للتحكم في اختيارات البشر، لا لمساعدتهم في صنعها.

وترى كوك أن الخطر الأكبر يكمن في تكثيف وتركيز قوة المعرفة والبيانات وتعبر عن ذلك بقولها: إن إضفاء الطابع التكنولوجي على كل جانب من جوانب الوجود البشري يُخاطر بإزالة الغموض والتعقيد الضروريين للحياة، مُحوّلها إلى معادلة يجب حلها، وتختتم هذا القسم برسالة مباشرة للجمهور تقول فيها: علينا أن نسأل أنفسنا: هل ما زلنا نحن من يُشغّل التكنولوجيا، أم أن التكنولوجيا هي التي تُشغّلنا بناءً على نموذجها الخاص للمُستخدم المثالي؟

دعوة إلى المقاومة والوعي النقدي

لا تترك كوك القارئ في حالة من اليأس، بل تُقدّم له دعوة قوية للمقاومة من خلال الاستبصار والوعي، وتلفت نظره إلى أن التحرر من السيطرة التكنولوجية يبدأ بالتحرر من السرديات النفسية التي تُبنى حول تلك التكنولوجية غير البريئة.

علينا جميعاً أن نستعيد زمام سيطرتنا المعرفية مع إعادة توجيه انتباهنا نحو التفاعل الهادف في هذا العالم المادي بعيدًا عن الإشعارات المُصممة لتحويلنا للإدمان، وتُؤكد أن التغيير يبدأ من الفرد الذي يجب أن يراجع علاقته بالتكنولوجيا، وأن الخلاص ليس في تكنولوجيا جديدة، بل في وعي قديم يتمثل في إدراك قيمتنا الذاتية التي لا تحتاج إلى خوارزميات للتحقق منها.

تقييم نقدي للكتاب

يُعتبر كتاب علم نفس وادي السيليكون عملاً ضروريًا بشكل مُلحّ، وقد نجحت كوك بشكل كبير في إنجاز الهدف المعلن من الكتاب من خلال أسلوبها التحليلي الدقيق المُوثّق، والكاتبة تستخدم لغة قوية ومباشرة ولا تخشى تسمية الأشياء بأسمائها لدرجة تشعر القارئ بالانزعاج، وهو ما يُعدّ علامة على نجاحها في إثارة التفكير.

الكتاب موصى به بشدة للقراء المهتمين بعلم النفس، والفلسفة، وتأثير التكنولوجيا على المجتمع، وهو في المُجمل يُعتبر مرجعًا نقديًا لا غنى عنه لكل من يريد تجاوز السطح اللامع للبهرجة التكنولوجية من أجل فهم قوي للدوافع النفسية التي تُشكّل العالم الحديث.

قد تُعيد قراءة كتاب كوك تشكيل نظرتك تجاه هاتفك الذكي وتجاه كل إشعار يصلك، فربما يكون هذا أبرز عمل يطرح السؤال الأهم: ما الثمن الحقيقي لقضاء حياتنا عبر شاشات صممها آخرون؟ 


اقرأ أيضاً

ملخصات المجتمع


الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة