في رحاب النبوة.. حديث النيات
الحديث النبوي
نور يهتدي به المسلمون على مر الزمان لتستقيم حياتهم وينصلح شأنهم، ومن أهم
الأحاديث النبوية حيث وردت الكثير من أقوال العلماء لبيان أهميته، فيقول عنه أبو
داود، كما في «جامع العلوم والحكم»: إنه نصف الإسلام؛ فعن أمير المؤمنين أبي حفصٍ
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما
الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته
إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما
هاجر إليه» (رواه البخاري، ومسلم).
الحديث المذكور
حديث عظيم من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، قال السيوطي في «الأشباه
والنظائر»: اعلم أنه قد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر حديث النية، قال أبو
عبيدة: ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائدة منه،
واتفق الإمام الشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن مهدي، وابن المديني، وأبو داود،
والدارقطني، وغيرهم، على أنه ثلث العلم، ومنهم من قال: ربعه.
ووجه البيهقي
كونه ثلث العلم: بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها
الثلاثة وأرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة، وغيرها يحتاج إليها، ومن ثم ورد:
نية المؤمن خير من عمله، وكلام الإمام أحمد يدل على أنه أراد بكونه ثلث العلم، أنه
أحد القواعد الثلاث التي ترد إليها جميع الأحكام عنده، فإنه قال: أصول الإسلام على
ثلاثة أحاديث: حديث الأعمال بالنية، وحديث: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو
رد»، وحديث: «الحلال بين والحرام بين»، وقال ابن مهدي: حديث النية يدخل في ثلاثين
باباً من العلم، وقال الشافعي: يدخل في سبعين باباً(1).
يقول النووي: أجمع
المسلمون على عظم موقع هذا الحديث وكثرة فوائده وصحته(2)، ولأهمية
الحديث في هدي النبوة، وبناء قواعد الإسلام عليه، فقد بدأ به معظم العلماء
مصنفاتهم مثل أبو عبدالله البخاري، وقد نبه عبدالرحمن بن مهدي على أهميته في تصنيف
أي كتاب مختص تنبيها للطالب على تصحيح نيته ابتداءً(3).
وسبب ورود
الحديث، أنه روي عن عبدالله بن مسعود قال: هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها: أم
قيس، فكان يقال له: مهاجر أم قيس. (متفق عليه).
شرح
الحديث
النية لغة: مصدر
نوى، والجمع نيات: هي القصد، وهو عزم القلب على الشيء، وعقد القلب على إيجاد الفعل
جزماً(4)، وفي الشرع: قصد الطاعة، والتقرب إلى الله تعالى في إيجاد
الفعل، وعرفها القاضي البيضاوي بأنها شرعاً: الإرادة المتوجهة نحو الفعل، ابتغاءً
لوجه الله تعالى وامتثالاً لحكمه(5)، فهي: رادار القلب المسلم توجهه
إما إلى الخير، وإما إلى الشر، وهي مدار عمل المسلم ومعيار الأعمال الشرعية من
عبادات ومعاملات، فإما تصحح العمل الشرعي، وإما أن تبطله وتلغي آثاره(6)،
والنية محلها القلب، فيقول ابن قدامة: محل النية القلب، إذ هي عبارة عن القصد،
ومحل القصد القلب(7).
وحين نتطرق لمتن
الحديث نجده يبدأ بالتقرير الأهم في الإسلام: «إنما الأعمال بالنيات»، فكل عمل
مهما دق أو كبر، في السر أو في العلن، عبادات أو معاملات، خاص أو عام، كل هذه
الأعمال لا صحة لها إلا بنية.
قال الخطابي:
معناه أن صحة الأعمال ووجوب أحكامها إنما يكون بالنية، ويقول ابن هبيرة: لا يقبل
الله عملاً إلا بنية، حتى إن المسلم يضاعف له الثواب على أكله وشربه، وقيامه
وقعوده ونومه ويقظته، على حسَب نيته في ذلك، وربما يجمع الشيء الواحد عدة وجوه من
العبادات بالنية(8).
«وإنما لكل امرئ»؛
أي إنسان؛ «ما نوى» جزاء ما نواه في عمله، من خير أو شر، «فمن كانت هجرته إلى الله
ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها
فهجرته إلى ما هاجر إليه»؛ الهجرة: الترك، والهجرةُ إلى الشيء: الانتقال إليه عن
غيره، وفي الشرع: تركُ ما نهى الله عنه(9).
الدروس
المستفادة
هناك جملة من
الدروس المحددة التي يمكن أن نخرج بها من هذا النص النبوي الشريف، ومنها:
1- أن المرء
يثاب على نيته إذا انتوى أن يقوم بعمل صالح حتى وإن حبسه العذر كالمرض أو النوم
ولم يتمه، وأن العمل الواحد يمكن أن ينوي به أكثر من نية، فيثاب عليه بشكل مضاعف،
وأن هناك من الأعمال الدنيوية التي تحمل نفعاً دنيوياً للفرد يمكن أن يحيلها بنيته
الخالصة لله لعمل يؤجر عليه.
2- نتعلم أن
العمل بغير نية هو عمل مبتور، فالأعمال بغير نية أعمال بلا قيمة ويخشى على صاحبها
أن تكون هباءً منثوراً، فهي كشجرة ميتة بغير حياة، لا تظلل، ولا تخرج ثمراً، ولا
ينتفع بها أحد.
3- يوجهنا
الحديث للإخلاص في كافة الأعمال، العبادات والمعاملات، حتى نحقق الأثر المطلوب
لها، ونحصد مرضاة ومغفرة الله تعالى.
4- أن النية
الصالحة تنتقل بالعمل من العاديات إلى مكانة العبادات، فالمسلم يأكل ويشرب كل يوم،
فبالنية الصالحة في طعامه أنه يتقوت من رزق الله، ليشكره على أنعمه، ويستعين بها
على طاعته، هو نية تحيل الطعام والشراب إلى عبادة وهكذا في سائر الأعمال.
5- النية محلها
القلب، والقلب هو محل نظر الله عز وجل، فالله عز وجل يعطي على النية ملا يعطيه على
العمل ذاته.
6- الفرق بين
مسلم ومسلم، والفرق بين عمل وعمل، هو النية.
7- نتعلم منه أن
النية جزء أصيل من الإيمان وشرط لصلاح العمل.
8- نتعلم أنه من
شروط العمل المقبول أولاً: أن يكون صحيحاً أو مباحاً، وثانياً: أن يكون خالصاً لله
عز وجل، فالنية الصالحة شرط قبول العمل.
9- أن النية
محلها القلب، ولا يجوز التلفظ بها.
10- أن الأمور
بمقاصدها ونواياها، وليس بمجرد وقوعها.
11- أن الفيصل
بين العبادة والعادة هو النية الباعثة على العمل.
12- أنه على
المسلم أن يعطي نفسه قبل الشروع في العمل وقتاً للتفكير كي يصلح نيته ويوجهها
بإخلاص صوب الله عز وجل.
13- تطهير النفس
وتعهدها بالرعاية ومتابعتها للخلاص مما قد يشوب النوايا من أمراض، مثل السمعة
والرياء والإخلاص، فهي محبطات للأعمال وإن بدأها المسلم بالإخلاص.
إن الأمر جد
خطير، وإن لم يتعهد المؤمن نفسه بالمتابعة والاستعصام بحبل الله عز وجل وقع في
محظور تشويه النية فيحبط عمله وهو لا يدري؛ لذلك فالأمر يستحق الوقوف طويلاً، بل
وقفات على مدار حياته، فتلبيس إبليس لن يتوقف إلا بتوقف الأنفاس.
__________________
(1) الأشباه
والنظائر للسيوطي، بتصرف.
(2) شرح مسلم
للنووي (13/ 47، ح 1907).
(3) شرح
الأربعين النووية لابن دقيق العبد.
(4) معجم لغة
الفقهاء، مادة نية.
(5) الأشباه
والنظائر، ابن نجيم، ج1، ص29.
(6) الفقه
الإسلامي وأدلته، ج1، ص197.
(7) المغني، ج1،
ص136.
(8) شرح منظومة
القواعد الفقهية الشثري، ج1، ص42.
(9) المغني، ج1،
ص136.