تنويع السلاح العربي.. ضرورة وجودية لتحرير القرار الوطني

د. هبة جمال جاد

02 أكتوبر 2025

355

في قلب واقع تختلط فيه المصالح وتتنازع فيه الأجندات، لم يعد السلاح سواء كان كميًا أو نوعيًا معيار قوة عسكرية فحسب، بل أصبح عنوانًا لاستقلال القرار الوطني وصون سيادة الدولة، وقد جاء التوجيه الرباني صريحًا في قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال: 60)؛ ليؤكد أن امتلاك القوة في شتى صورها ركن أساس لحفظ الكرامة والسيادة.

بالنسبة لعالمنا العربي، فإن هذه القضية ليست ترفًا فكريًا، بل هي مسألة وجودية تمس صميم الأمن القومي، فاعتماد الدول العربية شبه الكلي على مصادر خارجية للتسلح يشكل نقطة ضعف إستراتيجية خطيرة، تجعلها رهينة لإرادة الموردين في أوقات السلم، وعاجزة في أوقات الحرب؛ لذا يبرز تنويع مصادر السلاح كخيار إستراتيجي حتمي لا غنى عنه لضمان الأمن القومي العربي والحفاظ على حرية القرار.

الواقع العربي.. اعتماد يقوّض السيادة

تواجه الدول العربية تحديات أمنية استثنائية في ظل بيئة إقليمية متقلبة، وقد ظهرت آثار التبعية العسكرية جلية في منعطفات تاريخية عدة، وتُعد حرب أكتوبر 1973م التي خاضتها مصر لتحرير سيناء نموذجًا كاشفًا لخطورة هذا الاعتماد؛ حيث برزت خلالها الضغوط المرتبطة بتقييد تدفق السلاح وتوظيفه كورقة سياسية في لحظات مفصلية، فقد توقف إمداد السلاح أو تعطل بسبب اعتبارات سياسية لدول المورد، حتى في أحلك لحظات الصراع، هذه الاعتمادية تشكل أداة ضغط سياسية في يد القوى الدولية، حيث تستخدم ورقة السلاح للتأثير على القرارات العربية في قضايا مصيرية.

أبعاد التنويع كضرورة أمنية إستراتيجية

إن تنويع مصادر السلاح لم يعد خيارًا ثانويًا، بل تحول إلى ضرورة وجودية تفرضها طبيعة التهديدات وتعقيدات الواقع الدولي، وفيما يلي أبرز الأبعاد التي تجعل من تعدد الموردين الصناعيين ركيزة أساسية لضمان الأمن القومي العربي:

1- التحرر من الابتزاز السياسي: يمنح تنوع الإمداد الدول العربية هامشًا أوسع للمناورة ويقلل من فعالية استخدام ورقة السلاح للضغط عليها، إنه كسر لشوكة الارتباط الخارجي التي تفرض شروطًا على استخدام السلاح أو تمنع الدول من خوض صراعات تخدم مصالحها الوطنية.

2- ضمان استمرارية الإمداد في زمن الأزمات: إن الحروب معارك لوجستية؛ وعليه، فإن انقطاع إمدادات الذخيرة أو قطع الغيار يمكن أن يحول جيشًا قويًا إلى كتلة عاجزة، فمن خلال التنويع مع موردين من مناطق جغرافية مختلفة، تُقلل الدول العربية خطر انقطاع الإمداد وتضمن استمرارية قدرتها القتالية.

3- تعزيز القدرة التكنولوجية والتفاوضية: فتح آفاق التعاون مع أنظمة سلاح متنوعة (أمريكية، روسية، أوروبية، آسيوية) يثري الخبرات الفنية للقوات المسلحة، ويمنح الدول قوة تفاوضية أكبر من حيث السعر، ونقل التكنولوجيا، وشروط الصيانة.

4- التكيف مع طبيعة التهديدات المتغيرة: إن التهديدات في المنطقة متنوعة، تتراوح بين الصراعات التقليدية إلى حروب العصابات، وعليه فإن مصدر واحد لا يلبي كل هذه الاحتياجات، ففتح قنوات توريد متعددة يسمح بتجهيز الجيوش بمجموعة أوسع من الأسلحة المتخصصة.

التكامل الدفاعي العربي كخيار إستراتيجي

لمواجهة التحديات اللوجستية كالتعقيد وعدم التوافق بين الأنظمة، لا بد من انتقال الإستراتيجية من مجرد شراء السلاح من مصادر متنوعة إلى بناء منظومة دفاع عربي متكاملة:

1- التصنيع العسكري المشترك: يجب أن يكون الهدف الإستراتيجي إقامة صناعة عسكرية عربية مشتركة، تبدأ بتصنيع قطع الغيار وصولاً إلى أنظمة متكاملة، فالتجربة المصرية في صناعة وتطوير الصناعات العسكرية،  والسعودية في تعزيز الصناعة المحلية، والكويت في التركيز على الكفاءة النوعية والتحالفات الدفاعية، تمثل لبنات يمكن البناء عليها وتوسيع نطاقها عربيًا.

2- توحيد المعايير والأنظمة: العمل على توحيد المعايير العسكرية العربية لتسهيل دمج أنظمة السلاح المختلفة، وإنشاء منظومة قيادة وسيطرة عربية موحدة؛ ما يخفف من أعباء التعقيد اللوجستي.

3- تحالفات إستراتيجية متنوعة: بناء تحالفات دفاعية مع أقطاب متعددة بدلاً من الاعتماد على تحالف واحد؛ ما يضمن توازن العلاقات ويوسع خيارات التسلح.

4- الاستثمار في البحث والتطوير: إنشاء مراكز بحثية عربية مشتركة لتطوير تقنيات تلبي المتطلبات الخاصة بالبيئة العربية.

إن تنويع مصادر السلاح لم يعد ترفًا إستراتيجيًا يمكن الاستغناء عنه في أي وقت كان، بل أصبح ركيزة أساسية من ركائز الأمن القومي للدولة العربية؛ لأنه استثمار في الحرية والسيادة، وضمان ضد تقلبات السياسة الدولية، فالدول العربية التي تضع نصب أعينها تحقيق أمنها القومي بشكل مستدام، هي تلك التي تسعى بجد لامتلاك إرادتها الحرة، بدءًا من تحرير قرارها العسكري.

وعليه، فإن بناء قوة عربية متوازنة قادرة على حماية المصالح العربية يتطلب تحرراً من التبعية العسكرية، وهذا لن يتحقق إلا من خلال رؤية عربية مشتركة تتحول فيها إستراتيجية التنويع من كونها مجرد شراء من مصادر متعددة إلى خطوة أولى على طريق التكامل العسكري العربي وتعزيز القدرة الذاتية.

إنها رحلة طويلة تتطلب إرادة سياسية وتخطيطًا إستراتيجيًا، لكنها السبيل الوحيد لضمان أن تتحكم الدول العربية بمصيرها.

امتلاك السلاح من مصادر متنوعة ليس مجرد خيار تكتيكي فحسب، بل هو إعلان صريح عن حق الأمة في أن تكون سيدة قرارها، وقادرة على حماية حاضرها وصناعة مستقبلها، وضرورة لحماية الأمة الإسلامية والدفاع عن قضاياها المركزية، وفي القلب منها فلسطين.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة