في حادث الهجرة.. لماذا سراقة بن مالك خلف النبي ﷺ؟

هجرة النبي صلى الله عليه وسلم مليئة بالدروس والعبر، وقراءتها كل مرة كأنها أول مرة فهي دائماً متوهجة المعاني، تفتح باباً من التأمل والتفكر في قدرته عليه السلام في التخطيط والإعداد وتقديره لمهارات أصحابه وخصومه وعدم ترك أي ثغرة لإفساد ما تم إعداده والتخطيط له.

علوم العرب مقدمة لمهارات سراقة

إلى جانب براعة العرب في علم الأنساب فهو علمهم الأول، الذي كانوا يتفاخرون به، فقد كان هناك براعة من نوع آخر في علوم هي نتاج البيئة التي عاشوا بها وخبروها، ومنها:

- علم «الريافة»: وهو معرفة استنباط الماء من الأرض بواسطة بعض الأمارات الدالة على وجوده، بشم التربة أو نوع ورائحة النباتات، وهو من فروع الفراسة من جهة معرفة وجود الماء، والهندسة من جهة الحفر وإخراجه إلى وجه الأرض.

- كما برعوا في علم «العيافة»؛ وهو علم يختص بمعرفة آثار الحيوانات والطير ومعرفة طريقة تحليقها في الجو، وهل ذلك لأجل النزول على الماء أو على الجثث ونحو ذلك، وكانت أشهر القبائل في ذلك قبيلة «بنو لِهْب».

- أما علم «القيافة»؛ فقد برعوا فيه براعة فائقة حيث كان لديهم ما يعرف بـ«القائف»، وكانت القيافة عندهم على ضربين؛ قيافة البشر، وقيافة الأثر.

فأما قيافة البشر فالاستدلال بصفات أعضاء الإنسان، حيث يعرض على أحدهم مولود في عشرين نفراً فيلحقه القائف بأحدهم، وكان بنو مدلج -قوم سراقة- من أمهر القبائل في ذلك.

وأما قيافة الأثر فالاستدلال بالأقدام والحوافر والخفاف، ليعلموا آثار صاحبها، وهل هو رجل، أم امرأة؛ وبكر، أم ثيب، ولهم في ذلك حكايات عجيبة.

مولد ومهارات سراقة بن مالك

ولأجل مهارة بني مدلج في علم القيافة، سُرّ النبي صلى الله عليه بقول قائفهم الأول مجزز المدلجي، حينما دخل على السيدة عائشة، وهو تبرق أسارير وجهه ويقول لها: «ألم تسمعي ما قال مجزز المدلجي ورأى زيداً، وأسامة، قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما؟»، فقال: «إن هذه الأقدام بعضها من بعض»؛ وذلك أن أسامة كان أسود، وأبوه زيد بن حارثة كان أبيض البشرة(1).

وقد عاش في بني مدلج وولد فيهم وورث عنهم هذا العلم كابراً عن كابر سراقة بن مالك، الذي لم يستطع أحد غيره أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة.

هذا العلم أتاح لسراقة أن يحدد بلغة عصرنا «إحداثيات» تواجد النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه حتى وصل إليه ولم يبق بينهما إلا مسافة رمحين أو ثلاثة.

وهنا تأتي اللحظة الفارقة والعناية الإلهية لتنقذ النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من ضرر سراقة وأذاه، حيث ساغت قدما فرسه في الأرض والتصقت بطن الفرس بالأرض وخرج دخان وغبار من موضع أقدام الفرس.

تساؤلات حول وصول سراقة للنبي

ويبقى السؤال هنا: لماذا فُعل بسراقة هذا الأمر وكان الله قادراً على أن ينزل عليه صاعقة، أو يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعند إطلاق السهم أو الرمح عليه ترتعد يده ويسقط سلاحه، كما وقع لأحد الأعراب حينما انفرد بالنبي صلى الله عليه وسلم؟

وهذا السؤال يقرّب لنا معرفة شخصية سراقة ومهاراته، فإلى جانب قدرته الفائقة في معرفة الأثر، فقد كان فاتكاً ولديه مهارة فائقة في ركوب الخيل، لدرجة أن الفرس كان يسقط إلى الأرض ولا يسقط هو عن ظهره.

وربما كان لهذه المهارات بتتبع أحواله ومواقفه في عصر الرسالة أن إبليس -عليه لعنة الله- قد اختار شكله دون غيره وتمثّل به وخرج مع المشركين في غزوة «بدر» ليقوّيهم على المسلمين، لما يعرفون عنه من الخبرة في قيافة الأثر والفتك ومهارة ركوب الخيل.

ولذلك، حينما رأى الملائكة في القتال ولى هارباً ونكص على عقبيه حتى ألقى نفسه في البحر، وكان هذا من تمام تعمية الشيطان على المشركين؛ لأن بني مدلج كانوا يسكنون غرب المدينة ويعيشون بالقرب من الساحل(2).

أيضاً كان منهم من كان يركب البحر، ولذلك قال بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم: إنْ نتوضأْ بمائِنا عطشنا وإن نتوضأْ بماءِ البحرِ وجدنا في أنفسِنا، فقال لهم: «هو الطَّهورُ ماؤُه الحلالُ ميتَتُه»(3).

فجاء هروبه ناحية البحر ليؤكد لهم أنه سراقة، ولم يعلم المشركون أنه الشيطان حتى أسلموا وقرؤوا القرآن، وفق إحدى روايات السيرة، كما كان خروجه معهم طمأنينة لحماية ظهر قريش من أعدائهم من بني كنانة، لأن بني مدلج تنحدر من كنانة وكان سراقة من أشراف بني كنانة فقال: أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه، لتكتمل هذه الأمور لأجل استدراجهم ووقوع مقتلتهم في «بدر»(4).

يكشف لنا حادث الهجرة أمراً مهماً في توظيف المهارات الشخصية والسمات المزاجية والنفسية التي يتحلى بها الشخص، فسراقة لديه علم بارع في تحديد الإحداثيات التي أوصلته إلى هدفه بعناية، لأجل الحصول على الجائزة الباهظة.

كما يكشف لنا حادث الهجرة أن دلائل النبوة لم تكن يوماً ما منعزلة عن تخطيط النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانت من جملة تمام رسالته التي تفتح القلوب المصفدة والمغلقة ليدخل إليها الإيمان، فهي تراعي الصفات والقدرات الشخصية والجماعية للأشخاص والقبائل، كما وقع لسراقة في حادث الهجرة، فهو العالم بالمكان والزمان، وهو أيضاً الفارس الفاتك.

فجاءت واقعة دخول أقدام فرسه في الأرض لينهزم نفسياً، ويعلم أن هذا الأمر فوق طاقته ومهارته؛ لتفتح له باب الإيمان ليدخل فيه وقد كان، حيث كان في أول النهار طالباً للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي آخره من رجاله وفي صفه، وضلَّل المشركين في معرفة وجهة النبي صلى الله عليه وسلم(5).

فقراءة السيرة النبوية وأحداثها بطريقة تحليلية تمنحنا مزيداً من تقدير وسائل كل عصر وضرورة بذل قصارى الجهد في تعلمها وليس العزلة بعيداً عنها.

كما أيضاً تغرس في نفوسنا تقدير مهارات الآخر وخاصة المخالف لنا، وأن عملية الانتصار تحتاج إلى تخطيط ودربة ومهارة والأخذ بكل الوسائل، وأن حياته صلى الله عليه وسلم من منبعها إلى مصبها كلها إعداد وتخطيط وصبر ودراسة لكل محيطنا، وهو ما فعله صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى المدينة وأيضاً أثناء وجوده بها بعد تكوين دولته.





_________________

(1) البيهقي: دلائل النبوة.

(2) د. شوقي أبو خليل: أطلس السيرة النبوية.

(3) الهيثمي: مجمع الزوائد

(4) الصالحي: سبل الهدى والرشاد.

(5) ابن القيم: زاد المعاد.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة