قصة أصحاب الأخدود.. فوائد واقعية

رقية محمد

27 مايو 2025

412

في خضم الصراع الأبدي بين الحق والباطل، وفي أحداث مواجهة الطغيان وأساليب القمع والاستبداد، تأتي قصة أصحاب الأخدود كواحدة من القصص القرآني الملهمة لكل جيل، ليقتدوا بالأبطال الذين ثبتوا على الحق رغم ما كلفهم ذلك من تضحيات، تأتي تلك القصة لتتجاوز إطار العبرة الوجدانية لتصل إلى المستويات العليا من الوعي الفكري، حتى يكون المسلم على بصيرة بحقيقة الصراع ومآلات تضحياته، فيصبر على ما يلاقيه من مآسٍ.

وقد قص الله عز وجل علينا قصة أصحاب الأخدود في سورة «البروج»، ورويت بطولها في الحديث الذي أخرجه مسلم (3005)، والترمذي (3340)، وأحمد (23931)، وفيها الكثير من الدروس الواقعية والفوائد الجليلة التي تفيدنا في واقعنا المعاصر، وهذه بعضها:

1- الدين للمسلم حياة:

لم يساوم المؤمنون في قصة أصحاب الأخدود على إيمانهم مقابل الإبقاء على حياتهم، بل تمسكوا به وثبتوا عليه، وفي هذا الزمن الذي تتعدد الضغوطات التي تدفع المؤمن للتنازل عن إيمانه أو بعضه؛ وجب التمسك بالدين والأخلاق، فلا يبيع المسلم دينه من أجل الدنيا، فيلقي بنفسه في نار الآخرة الأبدية.

2- مفهوم النصر والهزيمة:

لم ينج الغلام، ولم ينج المؤمنون في الدنيا، فهل هزموا؟ قتل الملك المسلمين وأحرقهم أمام أعوانه، فهل انتصر؟ هذا التساؤل يضع المسلم أمام مفهوم النصر الحقيقي، فالنصر هنا يكمن في ثباتهم على الحق وأنهم ربحوا الآخرة، في حين تجلت هزيمة الملك حين لجأ لهذا الطغيان والاستبداد لكي يداري ضعفه وفشله في القضاء على الحق، والأهم أنه خسر الآخرة، فتذكُّر هذا المفهوم يُعيد ترتيب الأولويات في حياة المؤمن، ويقوي عزيمته عند مواجهة الصعاب.

3- الاهتمام بتربية الأبناء:

فبطل هذه القصة هو غلام، نشر الله على يديه الدين، وضحى بروحه من أجل نصرة ربه، كما اهتم الساحر بتعليم طفل صغير لأنه أصفى ذهناً وأقبل للتعلم والاستفادة والحفظ، وهذا يحفز المربين في كل زمان ومكان على العناية بتربية الأطفال تربية شمولية؛ إيمانية، ونفسية، وجسدية، وعقلية، واجتماعية، والاستفادة من توقد أذهانهم وقوة حفظهم في الصغر، حتى يقوموا بنصرة هذا الدين.

4- قيمة القدوة العملية:

تبرز قيمة القدوة العملية في ثبات الغلام على الحق، وعودته مرتين للملك دون أن يهرب، ثم ضحى بنفسه من أجل بيان الحق للناس، فتجلى ذلك في دخول الناس أفواجاً في الإيمان، وثباتهم عليه رغم شدة الابتلاء، فالناس يتأثرون بالفعل الصادق أكثر من الكلام المجرد عنه، فعلى كل داعية ومعلم ومربٍّ أن يبذل الجهد في تقديم نموذج حي ماثل أمام الناس، لا مجرد قول شعارات ودعاوى.

5- قوة الإيمان العملية:

رغم صغر سن الغلام وأمر الملك بقتله؛ فإنه لم يخف ولم يتراجع، وذلك لقوة توكله على الله، فكان على يقين بأن الله قادر على أن يحميه ويكفيه شرهم، وكان ذلك جلياً في قوته وصلابته أمام الملك، وحتى في طلبه أن يجمع الملك الناس وأن يصف له طريقة قتله، فيجب على المؤمن أن يرعى قلبه ويغذيه بالتوكل واليقين ليكون قوياً أمام ابتلاءات الحياة.

6- جَلَد الكافر:

تبين القصة حرص ساحر الملك على حفظ علمه ونقله لجيل جديد، ويتجلى هذا الحرص في اختيار غلام وليس رجلًا كبيرًا، ومثله الملك الذي حرص على إطفاء نور الإيمان وزيادة القمع، فقتل الراهب والوزير، وأرسل من يقتل الغلام عدة مرات، فهذا الإصرار مما يبين حرص أهل الباطل على نشر باطلهم، وعدم تهاونهم مع من يحاربهم، وعدم شفقتهم بهم، فأولى بأهل الحق أن يحرصوا على بذل ما لديهم من خير ويصبروا على ذلك.

7- الاستهداء بالله:

فقد كان الغلام محتارًا بين طريقين، ولكنه طلب من الله الهداية بأن يبين له الطريق الذي يرضاه، فهداه الله له، قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت: 69)، وكذلك تثبيت الله لعباده عند الابتلاء، مثل ما حدث في هذه القصة من الرضيع الذي نطق وثبَّت أمه على الإيمان وقت العذاب.

8- صفة المعلم الحقيقي:

وقد أبرز الراهب أهم سمات المعلم الحقيقي حين اعترف للغلام بأنه صار أفضل منه، وبصَّره بتوابع تلك الأفضلية من حصول الابتلاء، وبما يجب عليه فعله وقت حصوله، كما قد ثبت هو نفسه عندما شق بالمنشار فلم يرجع عن دينه، فكان خير قدوة للغلام، فلذا وجب تخير المعلم الذي يكون قدوة للأطفال في سلوكه العملي لا علمه فحسب.

9- أهل الباطل منهجهم واحد:

فأهل الباطل في كل مكان وزمان هدفهم فتنة المسلمين عن الحق، ومن سلوكياتهم المتكررة استخدام السحرة كوسيلة إعلامية فاعلة، واستغلال نفوذهم للتنكيل بالمسلمين، وإن فشل كل ذلك فيلجؤون لقمّة طغيانهم بقتل أهل الحق كما فعل الملك بحرق المسلمين أحياء، ولذا كان عذاب أهل الباطل أنهم خالدون في النار ليذوقوا ما صنعته أيديهم، فالحقيقة أنهم أشعلوا النار في الدنيا ليحرقوا أنفسهم بها في الآخرة.

10- أهل الإسلام منهجهم واحد:

فأهل الإسلام طريقهم واحد ومنهجهم واحد وإن اختلفت شرائع كل أمة، وكل أمة تقتدي بمن قبلها، وتتصبر بمن وصل إليهم خبرهم ممن فازوا بنعيم الجنان ثوابًا على ما لاقوه في الدنيا من عنت.

وهذه القصة تتكرر كل يوم؛ فقد تتغير الأسماء والوسائل، فهناك دوماً طغاة يسعون لإطفاء نور الإيمان، وهناك دوماً مؤمنون يثبتون، ويضحون، وينتصرون ولو بعد حين، ومن هنا، فليست القصة مجرد تاريخ يُقرأ، بل هي حياة تُعاش، وموقف يُتخذ، واختيار يتجدد كل يوم، فبين ثابت على الدين ومنتكس؛ هكذا حال الناس، والعاقبة للمتقين.

الرابط المختصر :

كلمات دلالية

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة