ظاهرة التنمر في المدارس ومواقع التواصل: الأسباب والعلاج التربوي والمجتمعي

لم يعد التنمر مجرد كلمة عابرة في نقاشات التربية أو الإعلام. اليوم، تحولت هذه الظاهرة إلى أزمة تربوية ونفسية تهدد بيئة التعليم وسلامة الأبناء وثقتهم بأنفسهم، بعد أن تمددت من ساحات المدارس إلى ساحات الإنترنت المفتوحة دون رادع أو رقابة حقيقية.
مفهوم
التنمر وأنواعه
أوضحت الدكتورة حصة العبد الله، أستاذة علم النفس
التربوي بجامعة الكويت "التنمر سلوك
عدواني متكرر يصدر بقصد الإيذاء والإهانة، ويمارسه فرد أو مجموعة ضد شخص أضعف منهم
جسديًا أو اجتماعيًا. يتراوح بين السخرية البسيطة وصولًا إلى التحقير والإقصاء
والعنف الجسدي أو النفسي ."
وأضافت:"خطورته تكمن
في كونه سلوكًا صامتًا؛ كثير من الضحايا لا يخبرون أحدًا خوفًا أو خجلًا، بينما
ينمو داخلهم ألم عميق قد يتحول لاحقًا إلى عزلة أو اكتئاب أو حتى سلوك عدواني
انتقامي."
أسباب
تفشي التنمر
ضعف
التربية الأسرية والرقابة
أكدت د. حصة العبدالله أن غياب الحوارات الأسرية الدافئة
يدفع الطفل للبحث عن قوته من خلال إضعاف الآخرين، موضحة:"حين لا يسمع
الطفل كلمة طيبة أو تقديرًا في بيته، يبحث عن لفت الانتباه بالخوف لا بالحب.
التربية بالحوار والاحتواء تصنع إنسانًا واثقًا، أما التربية بالإهمال أو العنف أو
التدليل المفرط فتخلق طفلًا مضطربًا يجد في التنمر وسيلة ليشعر بقيمته بحسب القبس.
القدوات
العنيفة في المنزل والمجتمع
قال أ. عبد الرحمن العازمي، أخصائي اجتماعي في وزارة
التربية، "الطفل
المتنمر هو نتاج بيئة أسرية ومجتمعية. كثير من طلابنا الذين مارسوا التنمر، عند دراسة
حالتهم النفسية، اكتشفنا أنهم يتعرضون للعنف اللفظي أو الجسدي في المنزل، أو يرون
آباءهم وأمهاتهم يسخرون من الآخرين أمامهم."
وأضاف:"هناك سبب
آخر، وهو تقليد مشاهير السوشيال ميديا الذين يروجون للسخرية والاستهزاء بالآخرين
كنوع من الفكاهة. الطفل لا يفرق بين المزاح والجرح النفسي، فيقلدهم ليشعر بالتميز
بحسب مجلة آفاق الجامعية."
غياب
الردع التربوي
بحسب دراسة مركز دراسات الخليج التربوية في مارس 2025
التي شملت 37 مدرسة حكومية وخاصة في الكويت، لوحظ أن:68% من حالات
التنمر المدرسي لم تتلقَّ رادعًا تربويًا أو إداريًا حقيقيًا، بل اكتفت الإدارات
بالتنبيه اللفظي دون محاسبة فعلية، مما شجع المتنمرين على تكرار أفعالهم وخلق مناخ
مدرسي غير آمن.
وأشار التقرير إلى أن:"معظم ضحايا
التنمر يفقدون الثقة بالإدارة المدرسية إذا لم يجدوا استجابة سريعة، فيلجأون للصمت
والعزلة بدلًا من الشكوى."
أثر
التنمر على الطلاب والمجتمع
الأثر
النفسي والعاطفي
قالت د. أماني المطيري، استشارية الطب النفسي للأطفال
والمراهقين، "الطالب
المتعرض للتنمر يمر بأعراض نفسية واضحة: تراجع التحصيل الدراسي، فقدان الشهية،
الأرق، التبول اللاإرادي أحيانًا، والقلق المستمر."
وأضافت:"بعض الحالات
تصل إلى التفكير في إيذاء الذات أو الانتحار، خاصة مع التنمر الإلكتروني الذي
يلاحق الطالب حتى في غرفته الخاصة. وهنا تظهر أهمية التدخل النفسي المبكر قبل
تفاقم الحالة بحسب الراي."
الأثر
الاجتماعي والسلوكي
حذرت د. أماني من أن بعض الأطفال يتحولون لاحقًا إلى
متنمرين انتقاميين إذا لم يجدوا حلًا أو دعمًا نفسيًا، فتستمر دائرة العنف دون
انقطاع، وينشأ جيل يعتبر القسوة قوة واللطف ضعفًا.
حملة
(مدارس بلا تنمر)
أطلقت وزارة التربية الكويتية حملة "مدارس بلا
تنمر" بالتعاون مع متخصصين تربويين ونفسيين، تضمنت:
محاضرات أسبوعية في جميع المدارس، يقدمها مرشدون نفسيون
وأخصائيون اجتماعيون، لتعريف الطلاب بأشكال التنمر وطرق مواجهته.
ورش عمل تدريبية للمعلمين حول كيفية اكتشاف علامات
التنمر والتعامل الفوري معها لحماية الضحية وردع المتنمر.
ملصقات توعوية في الممرات والفصول تحمل شعارات مثل
"الكلمة الطيبة حياة" و "قف ضد التنمر.. كن إنسانًا".
حصص تربوية خاصة للمرحلة الابتدائية بعنوان "صديقي
المختلف" تزرع قيمة احترام الآخر وتقبل التنوع الجسدي واللغوي والاجتماعي.
خط ساخن تربوي لتلقي شكاوى التنمر بسرية تامة ومعالجتها
فورًا بالتنسيق مع أولياء الأمور.
وقال وكيل وزارة التربية للتعليم العام في تصريح صحفي
عند إطلاق الحملة:
"هدفنا بيئة
مدرسية آمنة خالية من العنف والتنمر، لأن الطالب لا يتعلم في مكان يخاف فيه."
العلاج
التربوي والمجتمعي
في المدرسة: تكثيف دور المرشد الاجتماعي والنفسي، وتحويل
حصص المهارات الحياتية إلى مواد أساسية تعزز الذكاء العاطفي.
في الأسرة: غرس الثقة بالنفس منذ الصغر، وتعليم الطفل
الدفاع عن نفسه دون إيذاء الآخرين، ومراقبة سلوكه الإلكتروني وتعليمه قيم الاحترام
واللطف.
في المجتمع والإعلام: إصدار تشريعات رادعة ضد التنمر الإلكتروني،
بالإضافة إلى حملات توعية وطنية تشارك فيها شخصيات مؤثرة وقادة رأي، وإنتاج برامج
ومسلسلات تطرح قضية التنمر بأبعادها النفسية والاجتماعية دون تهوين أو تهويل، كما
أن التنمر جريمة نفسية وسلوكية قبل أن يكون ظاهرة مدرسية أو إلكترونية، فكلمة
قاسية تهدم قلبًا، ونظرة ازدراء تكسر حلمًا.
فلنجعل من بيوتنا ومدارسنا ومواقعنا بيئات آمنة، لأن
التربية بالرحمة والحب تصنع أجيالًا سوية وقوية، بينما التربية بالإهانة والسخرية
لا تنتج سوى المزيد من العنف والوجع.