التغافل تسعة أعشار العافية
رجل يشتكي من
أبنائه، وأخت تشتكي أمها، وزوجة تتألم وتتوجع من معاملة زوجها، وإخوة يترصدون
أخاهم لينشروا خطاياه، وامرأة تحسب أن ما نزل بها من مطاعن ومصائب وأوجاع لم ينزل
ببشر، فكان نتيجةً هذا وذاك أرحامٌ مقطعة وأوصال ممزقة، وقرابات لم تعرف الود ولا
القرب، وقلوب لم تعرف الحب ولا الحنان يوماً، وكل يظن أن ما وقع به لا يغفر ولا
يمكن المسامحة فيه.
لن يهنأ لإنسان
عيش إلا بالتغافل عن أخطاء الآخرين، ومسامحتهم، ونسيان زلاتهم، أو تناسيها، والعفو
عنهم طلباً لما عند الله أولاً، وثانياً: ليرتاح بالنا، وتسعد قلوبنا، وتسكن
نفوسنا، لأن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، يقول الله تعالى: (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) (عبس: 17)، ويقول أيضاً: (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (العاديات: 6)؛ فتدبر النص القرآني (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) لعن الإنسان فما أشد كفره! فالنص يشمل الجنس البشري كله،
وليس الكافرين فحسب ولا غير المسلمين فقط، وإنما يدعو باللعن على الجنس البشري كله،
فما أشد كفرهم وعتوهم وطغيانهم وفسادهم وظلمهم لأنفسهم ولبعضهم، ولأقرب الناس لهم،
فما الحل؟
الحل الوحيد للوصول
إلى المعاملة الأحسن والأمثل هو: التغاضي والتغافل عن أخطاء وخطايا من حولنا، ونعلم
أن من لا يَرحم لا يُرحم، ومن لا يَغفر لا يُغفر له، فإذا أردت من الله تعالى أن
يغفر لك زلتك ويستر عيبك، فاغفر للآخرين زلاتهم واستر عيوبهم، واعلم أن المؤمن
ينصح ويتغافل ويستر، والفاجر يهتك ويتربص ويعاير.
وكان السلف
الصالح يعدون من أعلى درجات الفتوة: ترك الخصومة، والتغافل عن الزلة، ونسيان
الأذية، وذلك على العكس مما يعده الناس فتوة في هذه الأيام: من ضربني بكف فرددته
اثنين، ومن رشني بالماء أرشه بالنار، لكن الحقيقة عكس ذلك تماماً، فعن أبي كبشة
الأنماري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث أقسم عليهن،
وأحدثكم حديثاً فاحفظوه.. فأما الثلاث التي أقسم عليهن: فإنه ما نقص مال عبد من
صدقة، ولا ظلم عبد بمظلمة فيصبر عليها إلا زاده الله بها عزاً، ولا يفتح عبد باب
مسألة إلا فتح الله له باب فقر» (رواه أحمد، والترمذي).
يتوهم الكثير من
الناس أن العفو طريق للمذلة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن العفو سبيل
العز، بل ويقسم على ذلك لأن فلسفة الناس وفهمهم للحياة مبني على مغالطات شتى، ولا
سبيل لتلافي هذه المغالطات والأخطاء إلا باتباع سُنة نبينا صلى الله عليه وسلم، والحل
الأمثل هو العفو والتغافل عن خطايا الآخر.
ومن جميل ما ورد
في التغافل من الحكم قول حكيم: عظموا أقداركم بالتغافل، فالإنسان حين يتغافر
ويتغاضى عن أخطاء الآخرين يعظم قدره، ويعلو بنفسه على صغائر الأمور.
ولذا قيل: ما
استقصى كريم قط حقه، ألم تسمع قوله تعالى: (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ) (التحريم: 3)؟ فمن هدي النبي صلى الله عليه وسلم تصويب بعض الأخطاء، والتغاضي
والإعراض عن البعض الآخر.
قال الشاعر:
تغافل في الأمور
ولا تكثر تقصيها فالاستقصاء فرقة
وسامح في حقوقك
بعض شيء فما
استوفى كريم قط حقه
فاعلم أن من
السخاء والكرم ترك التجني، وترك البحث عن باطن الغيوب، والإمساك عن ذكر العيوب، كما
أن من تمام الفضائل الصفح عن التوبيخ، وإكرام الكريم، والبشر في اللقاء، ورد
التحية والتغافل عن خطأ الجاهل، لأن من شدد نفر، ومن تراخى تألف، وأنشدوا في
التغافل:
ومن لا يغمض
عينه عن صديقه وعن بعض ما فيه يمت وهو
عاتب
أغمض عيني عن
صديقي تغافلا كأني بما يأتي من الأمر جاهل
وقال الحسن
البصري: أدركت أقواماً لم تكن لهم عيوب، فتكلموا في عيوب الناس فجعل الله لهم
عيوباً، وأدركت أقواماً كانت لهم عيوب فسكتوا عن عيوب الناس، فستر الله عيوبهم.
وقيل لأحمد بن
حنبل: العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في التغافل، فقال أحمد: العافية عشرة أجزاء
كلها في التغافل.
فمن أراد
العافية في بدنه ونفسه، ومن أراد السكينة لقلبه، والطمأنينة لنفسه ووجدانه
فليتغافل عن خطايا الآخرين وزلاتهم وليستر عيبهم، ويتجاوز عن سيئاتهم.