سالم مولى أبي حذيفة.. حامل القرآن وقائد كتيبة الحفَّاظ

قال الله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 146)، كانت هذه الآية آخر آية قرأها سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه قبل أن يستشهد في معركة «اليمامة» (معركة القراء)، هذه الآية التي تبين صفات الربانيين في الجهاد وهي عدم الوهن؛ والوهن الخور في العزيمة، والشعور باليأس، وعدم الضعف؛ والضعف الاستسلام والفشل في المقاومة، وعدم الاستكانة؛ والاستكانة الخضوع والمذلة للعدو، والصبر.

وقد وصف ربنا عز وجل الربانيين بأنهم الذين يعلّمون الكتاب ويتدارسونه، فقال سبحانه: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران: 79)؛ فالربانيون هم أهل القرآن والجهاد.

ونعيش في هذا المقال مع صحابي رباني جليل من كبار قراء الصحابة ومجاهديهم، وهو سالم بن مَعقِل مولى أبي حذيفة مِن السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ المهاجرين، البَدْرِيِّيْنَ، المقرئين المُقَرَّبِيْنَ، العَالِمِيْنَ المجاهدين.

أصله من الفرس، كان عبداً فأَعْتَقَتهُ زوجة أبي حذيفة بن عُتبة، وتبنَّاهُ أبو حذيفة، وبعد النهي عن التبني صار مولاً له، ولهذا يعرف بسالم مولى أبي حذيفة.

وقد صار هذا الصحابي الجليل من كبار قرّاء الصحابة، فقد أخرج البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا القرآن من أربعة: من عبدالله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأُبي بن كعب»، وأخرج أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء فيهم أبو بكر، وعمر..»، وورد في رواية: لأَنَّهُ كَانَ أَقْرَأَهُم.

وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عن عائشة، قَالَتْ: اسْتَبْطَأنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلةٍ، فقال: «ما حَبَسَكِ؟»، قلتُ: إِنَّ في المسجد لأَحْسَنَ مَنْ سَمِعْتُ صوتاً بالقرآنِ، فأخذ رِدَاءهُ، وخرج يَسمَعُهُ، فإِذا هو سالمٌ مولى أَبي حذيْفة، فَقَالَ: «الحَمْدُ لِلِّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَكَ».

فهذا سالم رضي الله عنه المُعتق الذي صار إماماً وسيداً من سادات الصحابة، وما هذا إلا بسبب حمله للقرآن وعِلمه وعَمَله به، فقد أخرج البخاري عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».

وتكتمل فصول قصة سالم وارتباط حملهِ للقرآن بالثبات في الجهاد، في معركة «اليمامة»، فقد شارك فيها عدد كبير من قرّاء الصحابة رضوان الله عليهم، واستشهد عدد كبير منهم حتى قالوا: استحرّ القتل في القرّاء، أي كثر واشتد، فعن ابن المسيب قال: شهداء «اليمامة» خمسمائة، فيهم خمسون أو ثلاثون من حملة القرآن، وعندما حمي الوطيس فيها انكشف الصحابة، وكاد جيش المرتدين من الظهور على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء دور حملة القرآن، وعلى رأسهم إمامهم سالم مولى أبي حذيفة، فكانوا من أهم أسباب النصر، فبعد استشهاد زيد بن الخطاب رضي الله عنه حامل راية المهاجرين، وقعت الراية، فأخذها سالم، فقال المسلمون: يا سالم، إنا نخاف أن نؤتى من قِبلِك، فقال: «بئس حامل القرآن أنا إن أُتيتم من قبلي».

فقد أخرج ابن المبارك عن حنظلة بن أبي سفيان أن سالماً مولى أبي حذيفة قيل له يومئذ في اللِّوَى: أَيْ تَحَفَّظْ بِهِ؟ فقال غيره: تخشى مِنْ نَفْسِكَ شَيْئًا فَتُوَلِّي اللِّوَى غَيْرَكَ؟ فقال: بِئْسَ حَامِلُ الْقُرْآنِ أنا إِذًا، فَقُطِعَتْ يَمِينُهُ، فَأَخَذَ اللِّوَى بِيَسَارِهِ، فَقُطِعَتْ يَسَارُهُ، فَاعْتَنَقَ اللِّوَى وَهُوَ يَقُولُ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ {144} وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ {145} وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران)، فلما صُرِع، قال لأصحابه: ما فَعل أبو حذيفة؟ قيل: قتل، قال: فما فَعل فلان لرجل قد سماه؟ قيل: قتل، قال فأضجعوني بينهما.

وقد كان مولاه أبو حذيفة ينادي أهل القرآن ويصرخ فيهم بقوله: يا أهل القرآن، زيّنوا القرآن بالفعال، ثم استشهد، فوُجِدَ بعد انتهاء المعركة هُوَ وسالم رضي الله عنهما، رَأْسُ أَحَدِهِمَا عِنْدَ رِجْلَي الآخَرِ صَرِيْعَيْنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.

وقد بلغت مكانة سالم رضي الله عنه في قلوب كبار الصحابة رضوان الله عليهم مبلغاً عظيماً، فعن مالك قال: كان عمر بن الخطّاب يُفْرط في الثناء عليه، حتى قال: لو كان سالم حيًا ما جعلتها شورى (أي الخلافة)، وفي رواية: لَوْ أَدْرَكَنِي أَحَدُ رَجُلَيْنِ، ثمَّ جَعَلْتُ إِليه الأمر، لَوَثِقْتُ بِهِ: سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الجَرَّاحِ.

أيها القراء الكرام، ما أحوجنا في هذه الأيام بعد «طوفان الأقصى» إلى إعادة قراءة سيرة غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ومعارك الصحابة الكرام رضي الله عنهم وذلك من أجل تلمس الطريق ومعرفة الواجبات والأولويات.

وإننا إذا تأملنا في معركة «اليمامة» وقارنّاها بمعركة «طوفان الأقصى»، فنجد أنه شارك في اليمامة نخبة حفاظ الصحابة، وشارك في «الطوفان» صفوة حفاظ غزة.

وكان من نتائج «اليمامة» حفظ دين الأمة والقضاء على فتنة الردة وجمع القرآن وحفظه، فقد أخرج الإمام أحمد عن زيد بن ثابت قال: جاء عمر بن الخطَّاب إِلى أبي بكرٍ فقال: «إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ بِأَهْلِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قُتِلَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأَخَافُ أَنْ لَا يَلْقَى الْمُسْلِمُونَ زَحْفًا آخَرَ إِلَّا اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ فِيهِمْ، فَاجْمَعِ الْقُرْآنَ فِي شَيْءٍ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَذْهَبَ»؛ فانشرح صدر أبي بكر رضي الله عنه لذلك فكلف به زيد بن ثابت رضي الله عنه.

وكان من نتائج «الطوفان» جمع كلمة المسلمين حول مسرى النبي صلى الله عليه وسلم وإحياء قضيته، وتحرير الكثير من الأسرى، وإحياء الجهاد في الأمة وكسر هيبة العدو وإساءة وجهه.

وتأسيساً على ما سبق، فإنني أدعو المربين إلى إعلاء شأن تعليم القرآن وتعلمه وتدبره وجعله على رأس أولويات البرامج التربوية.

وأدعو إلى تسمية مشاريع التحفيظ باسم صفوة الحفاظ مع ربط الناشئة ببطولات المجاهدين من صفوة الحفاظ في غزة، واتباع طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم الصحابة القرآن، فعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قال: إنا أخذنا القرآن عن قوم فأخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزهن إلى العشر الأخر حتى يعلموا ما فيهن من العلم، قال: فتعلمنا العلم والعمل جميعاً، وأخرج ابن ماجه عن جندب البجلي، قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيماناً».


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة