تحرير أمة لا تحرير وطن..
غزة تقود الأمة نحو الانعتاق من دائرة الاستضعاف

ألا فلنعلم
جميعاً ويقيناً أن الحرب الصهيونية على غزة في حقيقة الأمر حرب على أمة الإسلام
بأسرها، حرب تهدف إلى إبقاء المسلمين في ربوع العالم رهن حالة الاستضعاف والعبودية
والتشرذم والتيه والتخبط والتناحر والتخلف.
وعليه، فإن جهاد
غزة ليس فقط لتحرير فلسطين بقدسها وأقصاها، بل هو باكورة محاولات الأمة للتحرر من
هذه القيود المكبِّلة المذِلّة، التي هي في الأصل من أحكم الحصار على غزة، يداً
بيد مع العدو الصهيوني وداعميه.
ولتبيان الأمر
لا بد أولاً من توصيف مجمل سريع لأحوال الأمة الراهنة، وتحديد موضع أقدامها
الواهنة، حتى نضع الحرب على غزة من جانب، وجهاد أهلها من جانب آخر في موضعيهما
الصحيحين.
قبل أكثر من
قرنين من الزمن، ولأسباب وملابسات لا يتسع المقام لتفصيلها، بدأ الضعف يدُبّ في
أوصال الأمة الإسلامية، وأخذ جسدها الضخم الموحَّد يغرق تدريجياً في بحور
الاستضعاف والهوان والوهن بشكل تدريجي.
استغل أعداء
الأمة من الخارج، وأذنابهم من الداخل، هذه الأوضاع، التي شاركوا في صياغتها من
الأساس بفاعلية ودأب وعزم، ووضعوا مخططات بعيدة المدى لإبقاء الأمة رهن هذه الحالة
البائسة على الدوام، بل وزيادة انحدارها بشكل مطّرد ومتواصل، والأهم أنهم سارعوا
لوضع مخططاتهم هذه موضع التنفيذ، لضرب حصار محكم حول الأمة يجعلها في قعود مستمر
وتردِّ دائم، ويحول بينها وبين الاستفاقة ومعاودة النهوض.
كانت أهم إستراتيجياتهم
في هذا الإطار، ولم تزل، وضع حدود جغرافية مفتعلة وفاصلة بين أجزاء الأمة الواحدة،
لتحويلها إلى كيانات صغيرة، والأدهى أنها تحولت إلى أقطار متنازعة تموج بالصراعات
الحدودية فيما بينها، كما يعجّ كلٌ منها بصراعات داخلية إثنية ودينية وطائفية! وهو
ما دشّنته اتفاقية «سايكس بيكو»، وتُوّج بغرس هذا الكيان المجرم الذي طعنوا به قلب
الأمة العربية، ممزقاً أوصالها!
وبالتوازي مع
هذا، روّج أعداء الأمة وذيولهم في بلادنا لفكرة القوميات وإحياء العصبيات القُطرية
واستثارة النعرات المحلية حتى تحل مكان الإسلام كإطار جامع موحِّد، وتقضي على
مفهوم «الأمة» لصالح مفهوم «الوطن» القومي بمعناه التفتيتي المحلي الضيق، فبعد أن
كنا متوحدين متآخين تحت مظلة الأمة الإسلامية الواحدة، أصبحنا أمماً متفرقة؛ من
تُرك، وعرب، وكُرد، وبربر، وفراعنة..
ومن أهم ما سعوا
إلى تحقيقه حرمان المسلمين من امتلاك وسائل التقدم العلمي والتعليم الحقيقي،
ووسائلهم في هذا الصدد متعددة أهمها الدفع، من خلف ستار وعبر أذرعهم المحلية إلى
تجاهل العلم والعلماء وتهميش دورهم ومكانتهم واغتيالهم أدبياً ومعنوياً، فضلاً عن
الاغتيال المادي الذي مورِس ضد العلماء النابهين من أبناء أمتنا، في المجالات
العلمية المؤثرة، وإجهاض أي مشروع علمي أو تكنولوجي يتفلّت خِلسة من بين ثنايا هذا
الحصار المشدَّد؛ إما بالضغط لتفكيكه مع معاقبة من قاموا عليه، أو بنسفه ومحو أثره
عبر أذرعهم الاستخباراتية خارجياً وداخلياً ومخالبهم العسكرية القوية.
بالإضافة إلى
هذا، حرص أعداء الأمة، من خلال البوابات الخلفية التي يمتلكون مفاتيحها في بلادنا،
على وضع شخصيات تتفق مع معاييرهم هم في مواضع المسؤوليات الكبرى وتصدرهم المشهد
العام في مختلف المجالات، لوضع مخططاتهم موضع التنفيذ، شخصيات في أغلبها فاقدة
للأهلية الدينية والوطنية وأحياناً العقلية.
كما أغرقوا
مجتمعاتنا بوابل من الأفكار والفلسفات التي تصطدم مع جوهر دينها، بل وقدموا بعضها
كبدائل للإسلام، وإن غلّفوا الأمر بعناوين وذرائع مخادعة من قبيل الفهم العصري
للإسلام وما شابه، وأضحى نفرٌ من بني أمتنا لا هَمَّ لهم سوى القدح في تراث الأمة
والتشكيك في أهم أعمدته، بالإضافة إلى تشويه علماء الإسلام.
وعلى جانب آخر، عملوا
على هدم بنيان الأسرة وزرع عوامل التفسخ بمختلف ضروبه في فضائنا المجتمعي، كما
نشروا السطحية والتفاهة ووضعوا رموزهما موضع الصدارة!
ناهيك عن سعيهم
الدؤوب لإفقار بلادنا ونهب ثرواتها على الرغم من ثرائها بالموارد المتعددة، لإضعافها،
فضلاً عن تشويه صورة الإسلام وأبنائه عالمياً، واستثارة غالبية الأمم ضدهم.
كان ناتج هذا
كله الأزمة المصيرية والوضع الكارثي الذي تكابد أمتنا بؤسه المركب وتتجرع هوانه
المُذِلّ منذ عقود طويلة.
في هذا السياق
المظلم، ثارت معركة «طوفان الأقصى» بعزيمة فولاذية وجهاد أسطوري وبطولات وتضحيات؛ للخروج
من دائرة الذل والاستضعاف، فاستنفر أعداء الأمة جميع أذرعهم الفتاكة -في الداخل
والخارج- في إعلان قاطع بأنهم مستميتون للقضاء على غزة، ليس فقط لأن انتصارها
سيقضي على كيانهم الشيطاني، بل لأنهم يعلمون جيداً أنه لو نجحت غزة في الخروج من
ربقة الاستعباد وكسر سيفُها جبروتَهم وأذلّ صلَفهم؛ فحتماً ستتبعها الأمة بأسرها،
بإذن الله، وهذا هو رعبهم الحقيقي، أن تتحول غزة بجهادها وصمودها إلى رمز ومحفّز
ونموذج وقاطرة تجرّ الأمة كلها إلى التحرر من قيود الاستعباد، والانعتاق من ربقة
الاستضعاف، والانبعاث الحضاري كخير أمة أُخرجت للناس.
ومن العجب أن
يعلم أعداء الأمة رمزية غزة وموقع جهادها من حاضر الأمة ومستقبلها، ويقفون على أطرافهم
متجاوزين جميع الخطوط بمختلف أشكالها لكسر إرادتها، بينما يجهل غالب أبناء أمتنا
هذه الحقائق!
ويقتضي الإنصاف
أن نذكر هنا أن غزة ليست التجربة الأولى للثورة على قوى الاستكبار الشيطانية
ومحاولة تحطيم الحصار المضروب حول أمتنا منذ أكثر من قرنين، فقد سبقتها محولات
الشيشان، و«طالبان»، وبعض التجارب الأصغر، بيد أن لغزة مكانة خاصة ووضعية متفردة
في هذا السياق، ومردّ هذا إلى أنها أول تجربة في الجزء العربي من أمة الإسلام الذي
هو بمثابة القلب منها، ولارتباط جهادها بتحرير القدس والمسجد الأقصى بمكانتهما في
الوجدان الإسلامي، وأخيراً للبعد الأهم المتمثل في الحصار الفولاذي المحكم عليها براً
وبحراً وجواً، وهو ليس حصارًا عسكرياً فقط، وإنما حصار تجويع وتعطيش وكسر إرادة
بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى الوضعية الجغرافية لغزة باعتبارها مساحة صغيرة جداً
محاطة بجُدُر مرتفعة معادية من كل جانب، وعدد سكانها ضئيل إذا ما قورن ببلاد مسلمة
تقدر أعدادها بعشرات الملايين.
نحن على يقين من
أن السؤال الذي طرحه أعداء الأمة منذ «طوفان الأقصى» هو: لو خرجت غزة منتصرة بكل
قيودها وشراسة عدوها ووحشية داعميه وحجمها الضئيل وإمكاناتها شبه المنعدمة وأوضاعها
المأساوية.. فكيف سينعكس هذا على باقي أقطار أمة الإسلام؟ وهل سيستمر قعود
المسلمين وخضوعهم لحصارنا واستعبادنا لهم مع أن أوضاع أصغر بقعة في بلادهم أفضل
بمراحل من أوضاع غزة وأهلها؟
إنه إذا كان هذا
الكيان الصهيوني هو رأس الحربة للماسون والصهاينة وجميع أعداء الإسلام وأمّته، فإن
مجاهدي غزة هم رأس حربة الإسلام وأهله، حتى وإن غاب معظم أبناء الأمة عن الفعل
والتأثير، وجهلوا حقيقة هذا الصراع وموقعهم منه.
وبما أن ميزان
القوى بين الأمة وأعدائها ليس في صالحها، فإن الطريق الذي تسير فيه غزة هو الوحيد
الذي ستسلكه باقي أجزاء الأمة لتحررها وانعتاقها وبنفس الوسائل وبذات التضحيات،
ولسوف تكون غزة حينئذ القدوة والمعلِّم والنموذج الملهم، لأن أفدح الأثمان أولها، وهو
ما تسدده غزة حالياً بأرواح فلذات أكبادها وتقلبهم في جمرات العذاب ودمائهم التي
تروي ظمأ المخلصين من أبناء الأمة للكرامة والعِزة والإباء؛ لذا فإن دعم غزة
ونجدتها إنقاذ للأمة بأسرها.