رحلة «الحجاج الصغار» في مسقط.. «تاكسي طائر» إلى مكة والمدينة!

لم تعد ساحة الطابق الأول من مول مسقط كغيرها من ساحات التسوق العادية، إذ
بينما يتجول الناس في أروقة المول الكبير، يظهر ركن فسيح يتحول إلى مشهد مهيب،
وكأن الزمن انكمش ليرسم لوحات من مكة والمدينة على أرض سلطنة عُمان.
«المجتمع» رصدت فعالية تنظمها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية العمانية
بالتعاون مع وزارة الحج والعمرة السعودية، وبالشراكة مع تطبيق «نسك» السعودي الذي
بات اسماً مألوفاً لكل من خطط لحج أو عمرة في السنوات الأخيرة، تمثلت في معرض «الحجاج
الصغار».
طفولة في ضيافة الشعائر
ما إن اقتربنا من ساحة الفعالية حتى استقبلتنا مجسمات تأسر البصر، حيث
الكعبة المشرفة تتوسط المكان، مشيدة بتفاصيل دقيقة تعكس إجلال المصمم للمكان
الأصلي، وعلى بعد خطوات مقام سيدنا إبراهيم عليه السلام، والمسعى بين الصفا
والمروة، ومجسم لجسر رمي الجمرات، ومناسك أخرى تأخذ الأطفال في رحلة افتراضية عبر
كل محطة من محطات الحج.
الأنظار تحدق بأطفال صغار لا يتجاوزون السابعة من أعمارهم، يلبسون إزار
الإحرام الأبيض، ويمسكون بيد أمهاتهم وهم يرددون دعاء الطواف بعد أن لقنتهم إياه
مرشدة الفعالية.
كانت المرشدة شابة عمانية بملابس سوداء محتشمة، وتقمصت دور المطوف، وراحت
تقود الأطفال جماعات لتشرح لهم مناسك الحج بلغة مبسطة، وتغمرهم بحنو قل أن يُرى في
فعالية تعليمية.
أما الفتيات، فقد ارتدين إسدالات بيضاء وسوداء طويلة، بعضهن ارتداهن على
خجل، ولكن سرعان ما انطلقن كفراشات في ردهات المكان، يتنقلن من شعيرة إلى أخرى،
وهن يبتسمن للكاميرات التي يمسكها آباؤهن وأمهاتهن بفخر واعتزاز.
خدمات «نسك»
تطبيق «نسك»، الذي ترعاه وزارة الحج والعمرة السعودية، ليس مجرد أداة رقمية
لحجز مواعيد الشعائر، بل جرى تطويره ليكون منصة شاملة تدمج بين الخدمات اللوجستية،
والتوعوية، والتقنية، لتجعل من رحلة الإيمان رحلة ميسرة للجميع.
ووفقاً لموقع التطبيق الرسمي، فإن خدماته تشمل حجز تصاريح أداء العمرة،
وزيارة الروضة الشريفة، واستعراض خرائط الحرمين، وجدولة الزيارات، إضافة إلى تعلم
مناسك الحج إلكترونياً في أكثر من 180 دولة حول العالم، وهو ما شاهدناه جلياً في
مسقط.
رسم وألوان
في الزاوية الأخرى من الساحة، وبعد أن ينتهي الأطفال من أداء المناسك
الافتراضية، يجلسون حول طاولة مزينة بالألوان وأوراق الرسم، حيث يطلب المنظمون
منهم رسم الكعبة أو الحرم المكي الشريف، أو مشهد التلبية، شاهدنا أحد الأطفال وقد
رسم الكعبة تحيط بها قلوب، بينما كتبت فتاة صغيرة كلمة «لبيك» بالألوان الوردية
على ورقتها.
وبالقرب منهم، وضع المنظمون طاولة أخرى فيها قطع مكعبات ثلاثية الأبعاد،
يقوم الأطفال بتركيبها لتكوين مشهد الطواف أو السعي أو رمي الجمرات، لم تكن مجرد
ألعاب تعليمية، بل كانت وسيلة لزرع رموز الحج في مخيلة الأطفال، لتبقى ذكرى لا
تزول.
التاكسي الطائر!
ورغم أن تجربة الأطفال كانت طاغية على المشهد، فإن أولياء الأمور لم يكونوا
مجرد متفرجين، فقد خصص المنظمون لهم مع أطفالهم ركناً آخر، يحملهم في رحلة طيران
غير مسبوقة إلى مكة والمدينة!
في البداية، ظنناها دعاية مجازية للفعالية، لكننا سرعان ما فهمنا المعنى
حرفياً حينما شاركنا في الرحلة، ففي هذا الركن جلس آباء وأمهات يرتدون نظارات
الواقع الافتراضي (VR) وبمجرد ارتدائها، تبدأ الرحلة داخل «تاكسي طائر» يحملهم إلى أقدس
بقاع الأرض.
هناك من قادته الرحلة إلى مكة، حيث يشاهدون المسجد الحرام، والكعبة، وبئر
زمزم، وغير ذلك من معالم تُروى فيها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتُستشعر فيها
محطات سياقها التاريخي، فالأصنام تملأ المكان قبل الإسلام، ثم يتطهر الحرم منها
بالفتح المبين.
وهناك من قادته الرحلة إلى المدينة المنورة، حيث يمر عبره المشاهد بمزارات
مثل مسجد قباء، أول مسجد بني في الإسلام، ويعرف في محطة «التاكسي» فضل الصلاة فيه،
كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح بن ماجة: «من تطهر في بيته ثم أتى
مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان له كأجر عمرة».
ثم ينتقل «التاكسي» إلى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقف أمام الروضة
الشريفة، ويستمع لتعليق صوتي عذب يحكي قصة الصحابي أبي أيوب الأنصاري، الذي استضاف
النبي صلى الله عليه وسلم، وقصة أهل الصُّفة، أول نواة لمجتمع التكافل في الإسلام.
ما شدنا في هذه التجربة، ليس التقنية العالية التي جعلت الصورة حية والصوت
محيطاً والحركة محسوسة فقط، بل تلك اللمسة الوجدانية التي جعلت بعض الآباء
والأمهات يجهشون بالبكاء، وكأنهم عادوا للتو من حج حقيقي.
احتفاء غير المسلمين
وبينما الأطفال يطوفون، والآباء والأمهات يسافرون عبر الواقع الافتراضي،
كان مشهد آخر يتشكل في الخلفية: المارة، سواء من المسلمين أو غير المسلمين، وهم
يتوقفون بدهشة أمام الفعالية، شاهدنا بعضاً من غير المسلمين منهم يسألون عن المغزى
من هذه المجسمات، وعن التجربة التي يعيشها الأطفال.
إحدى الزائرات من غير المسلمات سألت إحدى المرشدات: هل يمكنني أن أجرب
النظارة أيضًا؟ فأجابت المنظمة بابتسامة: بالطبع، مرحبًا بكِ في مكة والمدينة،
وبعد دقائق نزعت النظارة وقد امتلأت عيناها بالدموع، وقالت: هذا المكان يفيض
طمأنينة، الآن أفهم لماذا تهفو قلوبكم إليه!
ولا يمكن الحديث هنا عن الفعالية الرائدة دون الإشارة إلى سلوك موظفات
وزارة الأوقاف العمانية، فبين الجدية في الشرح، والود في التعامل، كانت هناك مسحة
من الدعابة المحببة التي جعلت الأطفال يضحكون وهم يتعلمون.
وقبل نهاية الجولة، وزعت الموظفات الحلوى على كل طفل، وقالت إحداهن: هل هذه
مثل حلاوة العيد؟! فضحكت إحدى الأمهات وقالت: بل حلاوة ما بعد الحج!
بين الواقع والرمز
كان معرض الحجاج الصغار نموذجاً لما يمكن أن تقدمه الشراكة بين وزارات
الأوقاف والمؤسسات المنظمة للحج والعمرة، والقطاع المدني، وكانت تجربة «التاكسي
الطائر» معايشة فريدة لمسيرة الإسلام في أقدس مدينتين على وجه الأرض، فعلى من يكتب
عن المناسك أن يعايشها قبل أن يؤديها، وأن يحبها قبل أن يفهمها، وأن يفهمها قبل أن
يكتب عنها.