كم في غزة من أبي عقيل!
كم في غزة من أبي عقيل!

عصبية مقيتة،
تلك التي استحوذت على عقول بني حنيفة، واستحكمت من قلوبهم، حتى حدت بهم أن يخلعوا
عنهم رداء الحق ليتسربلوا بلباس الباطل، ولينساقوا قطيعاً مسلوب العقل، منقادًا
لدعي الزور والبهتان؛ مسيلمة الأشر، وطاوعوه عمياناً فيما نادى به من الضلال
والكفر، وتجمهروا حوله عاقدين العزم على نصرته والموت دونه، ولما آنس منهم النصرة
والتأييد جهر بالكفر والعصيان، وأعلن التمرد على ولي الأمر خليفة رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فما كان من الصدِّيق عليه رضوان الله إلا أن يبعث بجيش الحق من
الصحب الكرام ليئد الفتنة ويعيد الناس إلى طريق الحق.
في ساحة النزال
نزل جيش الخلافة
بساحة اليمامة وتواجه مع القوم الناكصين عن الهدى، وقد انتظموا في جيش كبير، حسن
العدة والعتاد، وفي ساعة من النهار التحم الجيشان، وثار النقع بينهما، واختلطت
الصفوف، وعلت الصيحات، وملأت قعقعات السيوف ساحة الميدان.
نداء يسكن الجراح
هنا حمل بنو
حنيفة على جيش الخلافة حملة أربكته وخلخلت صفوفه، فانكشف من وطأة الهجوم وأصيب من
المسلمين أول من أصيب أبو عقيل الأنصاري، حيث وقع سهم فيه بين القلب والمنكب فخرّ
على الأرض وحملوه جريحاً إلى مؤخرة الجيش، وكان الجيش قد تقهقر بالهزيمة، ثم نادى
منادي الأنصار: يا للأنصار! يستحثهم على القتال.
ولأجيبنه ولو حبوًا
ووقع النداء في
مسامع أبي عقيل فهمّ أن يقوم مجيباً فعاجله ابن عمر: يا أبا عقيل، إنما قال: يا
للأنصار! وما قال: يا للجرحى!
أجابه والدم
يثغب من جرحه: إنما قال: يا للأنصار! وأنا منهم ولأجيبنه ولو حبواً، فقام ثم تحزم
وزم يده على مقبض السيف وتقدم نحو الصفوف بجأش مربوط وعزم مشهود وراح يزعق منادياً
في قومه وقد التحمت الصفوف: يا للأنصار! كرة كيوم حنين، يا خيل الله تقدمي، وأبشر
بالنصر، ثم تقدم هو وقد ذهب عنه وهن الجرح وكأنه لم يكن، وراح يقاتل مخترقاً صفوف
الضلال لا يلوي على حياة، وكأن فردوس السماء دونها جيش مسيلمة، ضرب على عاتقه
فقطعت يده، لم يبال بذراعه وما ونى عن المنازلة، توالت عليه الجراحات حتى بلغت
أربعة عشر جرحاً، وكلها جراح غائرة مميتة، ثم استنفد البدن قواه فخر صريعاً على
الأرض وما زال به الرمق.
تقهقر جيش
مسيلمة من عزمة الرجال، فخلص الكرام إلى رأس الفتنة وأجهزوا عليه، وعاد ابن عمر
يلتمس أبا عقيل حتى وقف على رأسه، ناداه: أبا عقيل، أجابه بلسان ثقل عن الكلام:
لبيك، لمن العاقبة؟
أجابه: أبشر قد
قُتل عدو الله.
رفع بصره للسماء
بوجه متهلل ونصب سبابته إليها ولهج بحمد ربه ثم فاضت روحه إلى باريها.
يجود بالنفس
وإن ضن البخيل بها، والجود بالنفس أعلى مراتب الجود.
سلام عليك أبا
عقيل، سلام عليك وعلى رفاق دربك في الخالدين، قد مضيت كريماً طاهرا ًسخياً، مضيت
وأبقيت أثرك محفوراً في قلوب أولي الهدى والحق المبين، سطرت بملحمتك سطور النور
تبرق بالضياء منيراً لدروب السالكين.
أحفاد أبي عقيل
قالت دماؤك: يا
سيدي، إن ظهور الحق لا يكون بغير بذل كريم، وعطاء عميم، وأقمت الحجة سافرة أنه
بغير التضحية لا بلوغ لمرام، ولا ظفر بمراد، وقد وعى عنك أحفاد إيمانك ما صُغت من
معنى جليل، فنهضوا على إثرك مقتدين، وعلموا أنه لا كرامة لضنين، ولا عز لجبان مهين،
وأن الحق السليب لا عودة له إلا ببذل الأنفس، وأن الهوان عن بلادهم لن ينجلي إلا
بسفك الدم القاني.
وقد فعلوا ما
علموه، وثاروا بالفداء ليثخنوا في المغتصب الظلوم، ثاروا وليس لديهم إلا شحيح
العتاد، لينازلوا به أعتى عساكر الأرض المدججين بكل ألوان أسباب الهلاك، وقد صمدوا
على قلة عتادهم، وما كان غير إيمانهم من وراء ذاك الصمود، صبروا كما صبرت يا أبا
عقيل، وإن كانت أثخنتهم الجراح كما أثخنتك، حتى لام عليهم المرجفون وبهم شنعوا، لكن
ما فتوا في عضدهم شيئاً فهم بوصف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لهم: «لا يضرهم
من خذلهم ولا من خالفهم».
حين يشعل الإيمان جمرة النضال
قالت دماؤك:
أبا عقيل وصمودك العنيد، إن الإيمان لا رافد يضاهيه، ولا حتى يدانيه، في إيقاد
شعلة العطاء في نفوس من تزينت قلوبهم به، فهو يهين الدنيا في قلوبهم ويشدهم منها
إلى أجر الكريم في ديار الخلد جنات النعيم، فلا وطنية ولا حزبية تداني قوة الإيمان
في غرس حب الفداء والتضحية، وما ظهر الأوائل من هذه الأمة إلا لأن بنيها أشربت
قلوبهم الإيمان فجالدوا عتاة الأرض وظهروا عليهم منتصرين، ألا فليت شعري هل ينسج
مسلمة اليوم على منوالك أبا عقيل ليردوا غائلة المعتدين ويذودوا عن الحياض ويحفظوا
بيضة الدين؟!
شؤم العصبية العمياء.. إلى متى؟!
أبا عقيل، يا
رضوان الله عليك، قد حاربت قوماً غاصوا في حمأة الباطل، وما أغاصهم فيها إلا تلك
اللفحة العصبية، بنت الجاهلية الأولى، عصبية أعمتهم عن الهدى وأزت بهم أز الشياطين
إلى الضلال، وأحرى بهم لو عقلوا أن يثوبوا إلى الرشد وقد بان لهم زيف نبيهم
المزعوم حتى قال قائلهم: «كذاب من بني حنيفة خير من صادق بني هاشم»! لكنهم لم
يثوبوا وسدروا في الغي حتى هلك كثير منهم وهم على الكفر، وحري بكل عاقل أن يعتبر
بهم، فكم من متعصب لقومه انتصر لهم على حساب الحق! وكم انتصر متحزبون لحزبهم
وغمطوا أهل الصدق! ومن بني جلدتنا قوم انضووا تحت لواء جماعة ظاهرها مناصرة الحق
وحفظ الملة تعصبوا لجماعتهم تلك فناصبوا العداء بجهالة ومن عصبية لما سواها من
جماعات، أفلا يرى هؤلاء المتعصبون ما صنعت العصبية ببني حنيفة فيَرْعَوُوا عما
يصنعون؟!
بصمة أبي عقيل في كل جيل
أبا عقيل، قد
رحلت كريماً شريفاً طاهراً ولكن ما رحلت ذكراك ولا ذكرى أصحابك من بني الأنصار
والمهاجرين، فقد بقيت وبقي الرفاق في سمع الزمان وبصره قدوة وأسوة لكل شاهد بالحق
يدين لله بالإسلام حتى يشاء الله رب العالمين، فسلام عليك أبا عقيل ورضوانه، وعلى
كل صحب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
اقرأ أيضًا