مبادرات قادت إلى الخيرات

شاعر السيف والقلم محمود سامي البارودي له ديوان ماتع ممتع وقعت عيني على قصيدة من قصائده يقول في مطلعها:

بَادِر الْفُرْصَةَ وَاحْـذَرْ فَوْتَهَــــا        فَبُلُـوغُ الْعِـزِّ في نَيْلِ الْفُرَصْ

وَاغْتَنِـمْ عُمْرَكَ إِبَّانَ الصِّبَـــا           فَهْوَ إِنْ زَادَ مَعَ الشَّيْبِ نَقَصْ

فَابْتَدِرْ مَسْعَاكَ وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ              بَادَرَ الصَّيْدَ مَعَ الْفَجْرِ قَنَصْ(1)

الفرصة زمن خارج العادة أو المألوف، وضياعها يؤدي إلى الحتوف، سريعة الفوت بطيئة العود، تمر مر السحاب، وتزول زوال الضباب، وهي بداية الانطلاق، واغتنامها فجر الإشراق، وانتهاز الفرص دليل الحزم وعنوان العقل وبوابة العزم؛ لأن الدنيا حقيقة كالخيال لا نملك منها إلا اللحظة التي نعيشها، أما المستقبل فصورة باهتة لم تتضح معالمها بعد، وأما الماضي فأثر بعد عين يسير بها الركبان بعد أن هجرها الزمان، وعلى الحصيف أن يغتنم باكورة عمره كما يغتنم باكورة يومه، والحركة والسعي هما سبيل الوصول، أما التثاقل والكسل فمقبرة الأفول.

بين المبادرة والمبادأة

«كن مبادراً.. كن سباقاً»، شعار أطلقه أصحاب الهمة العالية والعزمات الصادقة؛ إيقاظاً لأفئدة الطامحين، وتنبيهاً لأذهان النابهين، والمبادرة هي انطلاقة المؤمن ومسارعته إلى عمل صالح بحافز ذاتي من نفسه، قال تعالى: (لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (المدثر: 37).

أما المبادأة، فهي صناعة الحدث واتخاذ العمل والقرار الصائب في وقته المناسب، وفي القرآن الكريم مورد عذب وموطن خصب من الآيات القرآنية التي تحث على المبادرة والمسارعة، ومنها قوله تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 133)، وقوله تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ) (الحديد: 2).

يقول صاحب «الظلال»: يدعوهم إلى السباق في ميدان السباق الحقيقي للغاية التي تستحق السباق، الغاية التي تنتهي إليها مصائرهم، التي تلازمهم بعد ذلك في عالم البقاء، فليس السباق إلى إحراز اللهو واللعب والتفاخر والتكاثر بسباق يليق بمن شبوا عن الطوق وتركوا عالم الهوا واللعب للأطفال والصغار، إنما السباق إلى ذلك الأفق وإلى ذلك الهدف، وإلى ذلك الملك العريض(2).

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لرجلٍ وهو يَعِظُه: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناءكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَراغَكَ قبلَ شُغلِكَ، وحياتَكَ قبلَ موتِكَ» (رواه الحاكم، 7846).

بين الفرصة والغصة

كثير منا لا يزال يعض أصابع الندم كلما تذكر كيف فاتته فرصة من فرص الحياة ولا يمكن تكرارها ولا تعويضها؛ كشراء شقة متميزة أو سيارة فارهة، وقليل من يفعل ذلك في أمور الآخرة، إما لجهله بالثواب، أو لغفلته عن العقاب، قال الماوردي رحمه الله: «فينبغي لمن قدر على ابتداء المعروف أن يعجله حذرًا من فَوْتِهِ، ويبادر به خيفةَ عَجْزه، ويعتقد أنه من فرص زمانه وغنائم إمكانه، ولا يمهله ثقة بالقدرة عليه؛ فكم من واثق بقدرة فاتت فأعقبت ندمًا، ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلاً، ولو فطن لنوائب دهره، وتحفظ من عواقب أمره لكانت مغانمه مذخورة، ومغارمه مجبورة، وقيل: من أضاع الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها»(3).

وإن كان الوقت لا يقدر بثمن ولا يستعاض عنه بعوض، فإن أمس الذي مر عن قربه يعجز أهل الزمان عن رده، وما أروع هذه الرسالة التي كتبها أبو أسحاق القرشي إلى صاحبه يقول منها: يا أخي، إن كنت تصدقت بما مضى من عمرك على الدنيا، وهو الأكثر، فتصدق بما بقي من عمرك على الآخرة وهو الأقل(4)!

وما أحوجنا إلى اغتنام الفرص لنفوز بالأجور الوفيرة والحسنات الغزيرة!

مبادرات الكبار

الصحابة رضي الله عنهم كانوا يبادرون اللحظة ويغتنمون الفرصة، تنافسوا في الطاعات وتسابقوا إلى الخيرات وسارعوا إلى مغفرة من ربهم وجنات، فأحبهم ربهم وأدناهم وأعلى مكانهم وأعطاهم، وتتصف مبادراتهم بالشمولية، فلم يقتصروا على المجال العلمي أو التعبدي فقط، بل شملت جوانب الحياة؛ علمية واقتصادية واجتماعية وشرعية، والأمثلة يعجز عنها الحصر والعد، ويكفي من القلادة ما طوق العنق.

فمبادرات أبي بكر رضي الله عنه معروفة ومواقفة مشهورة، وفي الوجهة صورة مشرقة ولوحة رائعة، فحين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالمبادرة إلى الصدقة فتصدق عمر رضي الله عنه بنصف ماله، وبادر الصدِّيق فتصدق بماله كله، ثم لما سأله النبي صلى الله عليه وسلم: «ماذا أبقيت لأهلك؟»، قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قال عمر: لا أسبقه إلى شيء أبداً. (سنن أبي داود، 1678).

ولما نزل قول الله تعالى: (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة: 245)؛ قال أبو الدحداح الأنصاري لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وإن الله عز وجل ليريد منا القرض؟! قال: «نعم يا أبا الدحداح»، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي؛ أي بستاني، وكان فيه 600 نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل.

وفي رواية أخرى: أن امرأته لما سمعته يناديها عمدت إلى صبيانها تخرج التمر من أفواههم وتنفض ما في أكمامهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كم من عذق رداح؛ فثمر وممتلئ في الجنة لأبي الدحداح» (مسند الأمام أحمد، 3/ 179).

صورة إيجابية صنعت مجداً خلده التاريخ، ومبادرة عظيمة ختمت بمنقبة جليلة، نحتاج إلى إحياء هذه الروح بين الناشئة في زمان ضاعت فيه القيم وماتت الهمم.





_____________________

(1) الديوان (1/ 529).

(2) في ظلال القرآن، مجلد رقم (6)، ص3492.

(3) فيض القدير (4/ 282).

(4) الأربعين في إرشاد السائرين إلى منازل المتقين لأبي الفتوح الطائر، ص66.  


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة