5 مظاهر للرحمة في حياة النبي ﷺ
من أعظم الصفات والأخلاق التي ميزت شخصية النبي صلى الله عليه وسلم خلق
الرحمة، حتى تجاوزت رحمته الزمان والمكان والأشياء، فصار سمتاً له، ولدعوته أصلاً،
ليقول فيه رب العالمين: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107).
ولقد أتى النبي صلى الله عليه برسالة الإسلام وهو دين الرحمات للخلق جميعاً،
فعن سلمان قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق يوم خلق السماوات
والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء إلى الأرض، فجعل منها في الأرض
رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم
القيامة أكملها بهذه الرحمة» (أخرجه مسلم).
وعن أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما خلق اللهُ الخلقَ
كتبَ في كتابه: إنّ رحمتي تغلبُ غضبي» (رواه مسلم).
أولاً: رحمة النبي بالأمة:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص أشد الحرص على هداية الناس ونجاتهم، حتى
كادت نفسه تتلف حزنًا على إعراضهم، فقال الله تعالى له: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى
آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (الكهف: 6)، وكان عليه الصلاة والسلام رحيماً بهم حتى في الصلاة، فكان
يريد أن يطيل في صلاته فيسمع بكاء الصبي فيخفف رحمة به، فيقول صلى الله عليه وسلم:
«إني لأقوم إلى الصلاة أريد أن أطوّل فيها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوّز في صلاتي
كراهية أن أشق على أمه» (رواه البخاري).
وعن رحمته بالعوام، وذلك بنشر فكرة التراحم بين الناس بعضهم بعضاً، روى عن
النعمان ابن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَثَلُ المؤمنين في
تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم، مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو تَدَاعَى له
سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى» (رواه البخاري، ومسلم).
ثانياً: رحمته بالضعفاء:
شرعت البشرية في الحقب الأخيرة كثيراً من التشريعات التي تخص الفقراء
والضعفاء حماية لحقوقهم ورحمة بهم وبالظروف التي تحيط بهم، فشرعت القوانين التي
ترفع من شأنهم من معاشات تقاعد، وإعانات، لكنَّ واحداً منها على مستوى العالم لم
يرق لتشريع إسلامي واحد تجاه هؤلاء المستضعفين في الإسلام.
فقد ارتقت تشريعات الإسلام ليكون الغني مجرد مستخلف في مال الله لديه، وأن
للفقير والضعيف والمحتاج حقاً في هذا المال في الزكاة والصدقات، وليس منحة من
الغني أو فضلاً منه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم معايير الأفضلية للرجال للدين
والخلق والإيمان، وليس للمال والجاه والنسب.
ولا يوجد قانون عمل وضعي يحفظ حقوق الخدم أو يهتم لشأنهم مثل النبي صلى
الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام في الخدم: «هم إخوانكم جعلهم الله
تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا
تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»، فأي قانون يأمر مواطنيه أن
يؤكلوا ويكسوا خدمهم من طعامهم وملابسهم؟
ويقول عليه الصلاة والسلام: «من وَلي أمرَ الناسِ، ثم أغلقَ بابهُ دون
المسكينِ والمظلومِ وذوي الحاجةِ، أغلقَ اللهُ تباركَ وتعالى أبوابَ رحمتهِ دونَ
حاجتهِ وفقرهِ أفقرَ ما إليها» (رواه أحمد).
ثالثاً: رحمة النبي بالعصاة والمذنبين:
والرحمة في الإسلام وعند نبي الإسلام لا تتوقف عند الصالحين والفقراء
والمستضعفين، وإنما تمتد للعصاة والمذنبين، وهم أحوج الناس إليها لتفتح أمام
أعينهم أبواب الأمل في قبول توبتهم حين يرجعون، ومن أول مظاهر الرحمة بهم هو الستر
عليهم، فعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن ستَر عورةَ أخيه
المسلم، ستر الله عورته يومَ القيامة، ومَن كشفَ عورة أخيه المسلم، كشف الله عورته
حتى يفضحه بها في بيته» (رواه ابن ماجه).
رابعاً: رحمته بالحيوان:
وتجاوزت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم عالم البشر لتمتد إلى عالم الحيوان،
ليخبرنا صلى الله عليه وسلم كيف أن امرأة دخلت الجنة في كلب سقته، فعن أبي بكر بن
أبي شيبة بسنده إلى أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن امرأة بغياً
رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها (أي:
استقت له بخفها) فغفر لها»، وأخبرنا عليه الصلاة والسلام أن امرأة أخرى دخلت النار
في هرة فيقول عليه الصلاة والسلام: «عذبت امرأة في هرة لم تطعمها ولم تسقها، ولم
تتركها تأكل من خشاش الأرض» (أخرجه البخاري، ومسلم).
وقد رحم النبي صلى الله عليه وسلم الحيوان حتى في وقت الذبح كي لا يعذبه،
فيقول عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ
فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»
(أخرجه مسلم).
خامساً: رحمته بالأعداء والكافرين:
امتدت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم لتشمل الرحمة بالأعداء متمثلة في
دعوتهم والحرص على هدايتهم خاصة وقت النصر، وقد ظلت عبارة «اذهبوا فأنتم الطلقاء»
تدوي في سماوات الدنيا لتسمعها عن عظمة القائد حين يكون صاحب هذا الدين العظيم،
ففي الموقف العظيم يوم فتح مكة قال لهم عليه الصلاة والسلام: «ما تظنون أني فاعل
بكم؟»، قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»(1).
______________________
(1) السيرة النبوية لابن هشام، ج2، ص412.