مآسي أفريقيا بعد الاستعمار.. تحليل فيلم «ساحرة الحرب»

يمثّل فيلم «ساحرة الحرب» (War Witch، هو إنتاج كندي مع الكونغو الديمقراطية عام 2012م، نموذجاً سينمائياً فريداً في تناول مآسي القارة الأفريقية، خاصة دول جنوب الصحراء الكبرى.

فبسبب الاستعمار الغربي الذي نهب ثرواتها، أضحت هذه الدول تعاني المجاعات، وتفتك بها الحروب الأهلية؛ الناتجة عن الصراعات القبلية من ناحية، وعن مشكلات الحدود التي رسمها الاستعمار قبل رحيله من ناحية أخرى، ثم ترك سكان القارة السمراء بين فكي القتل والفقر.

فما كان يهم الدول الاستعمارية إبقاء مستعمراتها السابقة مصدراً للمواد الخام التي تغذي مصانعها في أوروبا، ثم تصبح هذه الدول أسواقاً لتصريف المصنوعات.

تجنيد الأطفال.. جرح أفريقيا الغائر

تتأتى فرادة الفيلم من تركيزه الضوء على مشكلة تجنيد الأطفال في المعارك الحربية؛ من الصبية والفتيات، وكل ما يرتبط بذلك من جرائم الاغتصاب والقتل العشوائي والعيش في مطاردة وخوف، والالتحاق بعصابات المتمردين وتجار السلاح والمهربين، والفيلم يعطينا صورة لواقع يعيشه الأفارقة بشكل يومي، حيث الهجوم على القرى، ونهب الأموال، وإسالة الدماء، والصراعات التي لا تنتهي مع القوات الحكومية النظامية.

وثيقة درامية عن طفولة مسلوبة

الفيلم كتبه المخرج الكندي كيم نجوين، وقد قضى ما يقارب عقداً من الزمان في سبيل كتابة هذه الوثيقة الدرامية عن الجنود الأطفال في أفريقيا، لقد أنجز هذا العمل الإبداعي الرائع والمؤلم في آنٍ واحد؛ عن فتاة أفريقية حاولت النجاة من مأساة تلو الأخرى؛ في سبيل الحفاظ على ما تبقى من إنسانيتها، على الرغم من تعرضها لكافة أشكال العنف والقهر، وإجبارها على الاغتصاب واحتراف القتل، والعيش في الغابات.

فكما تشير الإحصاءات، ففي خلال العقدين الأخيرين، تم اختطاف أكثر من 30 ألف طفل أفريقي من عائلاتهم والزجّ بهم في حرب عصابات مهلكة تنتهك آدميتهم، ويضطر فيها الأطفال لقتل المدنيين الأبرياء واغتصاب النساء والفتيات الصغيرات، بل وحتى تشويه المارة العابرين، تحت رايات ترفع التمرد ضد الحكومات، تتخذها تلك العصابات شعاراتٍ سياسية.

قصة «كومانا».. من ضحية إلى ساحرة حرب

يحكي الفيلم قصة الطفلة «كومانا»، التي تصبح مقاتلة في صفوف جماعات من المتمردين ضد أحد الجيوش النظامية، وعلى الرغم من أن سنها لم تتجاوز 14 عاماً، فإنها عرفت القتل بدم بارد، بل والتلذذ بهذه الأفعال.

كانت «كومانا» الطفلة الوحيدة التي نجت بعد معركة وقعت في قريتها الصغيرة، التي أبيدت بالكامل، وأُجبِرَت على قتل والديها بيديها، ثم تركهما ينزفان للذهاب قسراً مع أفراد العصابة المسلحة، فشكّل هذا الحدث نقطة تحول في حياتها، إذ بات يُنظَر إليها كساحرة وعرافة، ومن ثم تصبح اليد اليمنى لقائد المتمردين، الذي سيرغمها على الزواج، ومعاشرته جنسياً، قبل أن تجد «كومانا» فتى آخر اسمه «ماجيسيان» لتعيش معه شغب الطفولة، وتبتعد معه عن آلة القتل، وشراسة العيش بين محاربين محترفين، فصديقها هو الوحيد الذي يشاهد معها شبح والديها اللذين ظلا يلاحقانها قبل وبعد أن تطلق أي رصاصة.

بنية السرد.. ذاكرة موجهة لجنين

جاء السرد في هذا الفيلم معتمداً على مخاطبة «كومانا» لابنها الذي تحمله في أحشائها، ومن خلال تقنية تيار الوعي، تتداعى الأحداث، ونسمع صوت «كومانا» وهي تروي ما عايشته من مآسٍ، وهي في سن صغيرة، وقد وجدت نفسها تواجه الحياة والنار وحدها، ويطاردها شبح أبويها، ويضغط على ضميرها، ونظل نسمع صوت «كومانا» يحكي بحزن وألم ما شاهدته، وهي تتحسس بطنها وجنينها الذي حملت به رغماً عنها، ولكنه يمثل أملاً جديداً في الحياة لها؛ لأنه –وإن كرهت أباه واحتقرته– فإنها تمسكت بهذا المتكون في بطنها، وهو ينمو يوماً بعد يوم.

فضاء مفتوح لرسالة عالمية

الظاهر في الفيلم أن البطلة كانت تروي بشكل حر وبتداعٍ زمني لذكرياتها، أما الباطن والمستتر، فإن السرد جاء مرتباً متناسقاً، في مشاهد متقطعة، ويملأ صوت «كومانا» الفراغات السردية التي يحتاجها المتلقي، أما الفضاء المكاني، فلم يشر إلى دولة بعينها، وإنما جاء مفتوحاً، فالواقع الأليم متكرر في كثير من بلدان القارة السمراء المنهكة بالحروب، فلن يفيد كثيراً الإشارة إلى بلد بعينه، وكأن كاتب النص يريد توصيل رسالة إلى العالم عنوانها: انتبهوا إلى مأساة الأطفال في أفريقيا، ضحية حروبكم التي تشعلونها، لتتغذى مصانعكم على دماء شعوب بأكملها.

هروب إلى الموت.. وقتل من أجل الحياة

هربت «كومانا» من المتمردين، وتزوجت من صديقها، وذهبا معاً للعيش في قريته مع أهله، بجوار عمه الذي يعمل جزاراً، حيث نعمت بالاستقرار، قبل أن يهجم أتباع زعيم العصابة «النمر الكبير» عليهما، وهما في نزهة خارج القرية، فيتم تكبيل زوجها، ومن ثم قتله أمام عيني «كومانا»، ثم حملها ثانية إلى «النمر الكبير»، الذي يرغمها على الزواج منه، ومعاشرته جنسياً متى شاء وبشكل عنيف، قبل أن تقتله «كومانا» وهو يضاجعها، ثم تهرب وتعود إلى قرية زوجها، وينتهي الفيلم برحيلها في سيارة لنقل البسطاء، دون أن تدفع مالاً، وقد وجدت عطفاً من سائق السيارة ومن كل من كانوا على متنها، وتأتي نهاية الفيلم، ووليدها الذي وضعته في القرية بين ذراعي امرأة حانية.

الواقعية السحرية كمرآة للمعاناة الأفريقية

إن هذا الفيلم يثير قضية الواقعية السحرية، في بعدها السينمائي، تلك الثيمة (الموضوع) التي عُرف بها مؤلفو إسبانيا وأمريكا اللاتينية، منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وبلغت أوجها مع كتابات جابرييل جارثيا ماركيز، خاصة في روايته «مائة عام من العزلة».

ويعتمد مفهوم الواقعية السحرية على المزج بين الواقع والخيال، على أن يكون المزيج في النهاية حقيقة في الحياة، التي تقول: إن كل شيء يحدث في حياتنا وإن كان به بعض السحر والغرائبية، إلا أنه اعتيادي وله حضور يومي، وإن أي شيء يحدث ضمن حدود الواقعية السحرية يتم قبوله على أنه نمط حياة تعيشه الشخصيات في القصة.

طقوس السحر في مواجهة قسوة الواقع

لا شك أن السحر بكل طقوسه وأبعاده جزء من الحياة في المجتمعات الأفريقية القبلية، وهناك كثير من الممارسات السحرية، والإيمان المطلق بقدرة الساحر وأثر السحر في الحياة؛ ما يعني أن الشخصيات في قصة الفيلم كانت على قناعة تامة بما تراه وتعيشه، فلا غرو أن يأتي عنوان الفيلم «ساحرة الحرب» في نعت واضح للفتاة «كومانا»، التي كانت لديها القدرة على القتال وإصابة الآخرين بشكل ميسر، ودون ضرر يقع عليها، فظن رفاقها في العصابة المتمردة أنها ساحرة بشكل ما، وأطلقوا عليها هذا اللقب، واتخذها زعيمهم «النمر الكبير» محظية عنده.

رموز سحرية ودلالات عميقة

من علامات الواقعية السحرية في الفيلم أيضاً، ما يسمى «الحليب السحري» المتساقط من بعض الأشجار، الذي يحوّل جسد مَن يتناوله إلى اللون الأبيض الفوسفوري، وهذا نجده يزين وجهي والدي «كومانا»، وهما يتجليان أمامها كل حين، ويطلبان منها أن تسارع بدفنهما، في لوم دائم لأنها قتلتهما وتركت جثتيهما في القرية عندما خطفها المتمردون، ولم يكن أمام «كومانا»، بعدما وضعت وليدها على شاطئ أحد الأنهار، إلا أن تعود بابنها إلى قريتها الأولى المهجورة، ومن ثم تدفن بعضاً من الأشياء البسيطة في قبر حفرته، معتذرة لوالديها، وسرعان ما يظهر والداها مجدداً، ساخرين من محاولتها العابثة.

ذروة العنف وفعل الخلاص

من المشاهد التي تستوقفنا في الفيلم، عودة «كومانا» إلى القتل، بعدما هجرته منذ زواجها، وكان الضحية هذه المرة زوجها «النمر الكبير»، فقد قتل أتباعه زوجها الأول أمام عينيها، قتلت «كومانا» «النمر الكبير» بطريقة بشعة، وبعدها تفر هاربة، وتنزف دماً، وتستنجد بسيارة شرطة، حيث يوصلونها إلى قرية زوجها الأول، فيستقبلها العم الجزار، وتعالجها زوجته.

صرخة سينمائية في وجه السياسة العالمية

يمكن القول: إن فيلم «ساحرة الحرب» علامة سينمائية مهمة، على مستوى السرد الذي جاء على لسان طفلة لم تعرف من سني طفولتها إلا القتل والاغتصاب، وتعرضت لأبشع المواقف وهي تقتل والديها بنفسها، وتكون شاهدة على قتل حبيبها وزوجها الأول، وهذا يبرر تلذذها بالقتل ودقة التصويب عندما التحقت بعصابات التمرد.

وما بين الواقع والذات المعذبة، تأتي القناعات السحرية التي تؤمن بها «كومانا» وكل من حولها، لنعيش جميعاً آفاقاً سحرية؛ سحنات فوسفورية، ديك أبيض، حليب سحري متساقط من الأشجار، لندرك أن اللون الأبيض رمز للنقاء وإدانة للدماء، وأن السحر ليس مفهوماً عقدياً، بقدر ما هو أحلام ورغبات وأمنيات، يلوذ بها الإنسان الأفريقي من حياة تطفح بكل مظاهر القسوة والمعاناة.

إن هذا الفيلم الكندي، الذي جاء باللغة الفرنسية، مع إحدى لغات الكونغو الديمقراطية، ليكون إدانة غير مباشرة لما يسمى السياسة العالمية فيما بعد الكولونيالية، فلا تزال كثير من البلدان الأفريقية تدور في رحى الحروب والفقر، ولا تزال تؤدي الأدوار المنوطة بها نحو المستعمر السابق، الذي لا يعرف تطبيقاً لشعارات حقوق الإنسان إلا مع مواطنيه، أما الشعوب الفقيرة فلا مكان لها في وعيه ولا في خطط سياساته الخارجية، وتلك إحدى مآسي عصرنا، أن تسمع كلاماً معسولاً، وترى واقعاً مرذولاً، ولا عزاء للفلاسفة ولا للفلسفة المثالية!

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة