مقامات غزة العالية

طارق الشايع

25 سبتمبر 2025

87

في أزقّة غزة المدمَّرة، وبين أزيز الطائرات وهدير الدبابات، يخرج شاب أعزل إلا من يقينه، يركض بخطوات ثابتة نحو آلية حربية لا تواجه -بمنطق الجيوش- إلا بآلية تشبهها أو بما هو أعظم منها قوة، هذا المشهد وهذه الخطوات لا يمكن اختزالها في مصطلح الشجاعة وحده، ولا في وصف البَسالة أو الثبات، إنه أسمى وأعمق.

ما يصنعه أبطال غزة اليوم مقام يعلو على كل وصف معروف، فمن المألوف أن يُربط الاقتحام بالاندفاع والتهور، لكننا في غزة نرى العكس تماماً: المقتحمون إلى الموت هم الأهدأ قلباً والأرسخ نفساً، قال الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)، فمن يهرع إلى الموت ولسانه يلهج بآيات الله وتسبيحه، يكون الذكر له درعاً داخلياً يقيه الاضطراب، ويمنحه يقيناً لا تهزه أزيز الطائرات ولا دوي المدافع ولا رعد القذائف، في تلك اللحظة يكون أصفى عقلاً وأهدأ نفساً، إذ يدرك تمام الإدراك أنّه يسلّم روحه لخالقها، وأن ما يُقْدِمُ عليه جسرٌ يعبر به إلى رضوان الله.

بحساب الأرض، من يركض نحو دبابة أو آلية مدرعة يركض إلى نهايته المحتومة، لكن بحساب السماء، هو يركض نحو بداية حياة جديدة؛ حياة اليقين بموعود الله تعالى، هذا الوعي هو ما يميزهم، وهو ما يجعلهم في لحظة يتوهم الناس أنهم بلا عقل!

هؤلاء ليسوا صوراً مزيّفة كما تُنتَج في مشاهد السينما العالمية، حيث يُصوَّر البطل وهو يصرخ كالمجنون ليقنعك ببطولته المصطنعة، يثير الضجيج أكثر مما يثير الهيبة، أما أبطال غزة؛ ففي اللحظة التي يُفترض بالعقل أن يطيش وبالقلب أن يرتجف، يواجهون الموت بوجوه وادعة، وقلوب ساكنة، وألسنة تتلو القرآن، هناك، وسط طلقات الرصاص ودويّ الانفجارات، يولد يقينٌ جديدٌ لا يعرفه إلا من صدق ما عاهد الله عليه.

لقد كان الصحابة يُوصفون بأنهم «رهبان بالليل فرسان بالنهار»، وهكذا هم رجال غزة؛ ركّعٌ سجّد بالليل، مقاتلون ثابتون بالنهار، إنهم ورثة أولئك الذين حملوا الإيمان سلاحاً واليقين زاداً، يقتحمون الصفوف كما اقتحم سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه جموع الروم، وكما انغمس سيدنا البراء بن مالك رضي الله عنه في قلب المعركة طلباً للشهادة، وليس هذا مقامَ شجاعة فحسب، بل هو مقامُ يقينٍ حيث تتلاشى عنده الحدود بين الخوف والرجاء، ويغدو الموت عندهم تحفة يتسابقون إليها كما يتسابق غيرهم إلى متاع الدنيا.

لذلك نقول: لم يعد يكفي أن نصفهم بالشجعان؛ فالشجاعة صفة تشترك فيها أمم كثيرة، لكنها عند أهل غزة لا تُفسَّر بمنطق القوة الأرضية، بل بمنطق السماء.

ما نراه هناك ليس بطولة عابرة، ولا مجرد موقف من مواقف الحروب، بل مقام خاصٌّ سيظل يُكتب بحروف من نور في سجلّ التاريخ، مقام يعلّمنا أن البطولة الحقيقية ليست في قوة السلاح، بل في قوة الروح حين تتصل بخالقها، وفي الطمأنينة التي تجعل الإنسان يبتسم وهو يركض نحو الموت.

هؤلاء هم أبطال غزة: رجالٌ تجاوزوا الشجاعة والبَسالة، وبلغوا مقاماتٍ لم تُسمِّها اللغة بعد.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة