الحرب في السودان.. جروح أمة ونداء للإصلاح

د. هبة جمال جاد

17 نوفمبر 2025

276

تمزق السودان اليوم حرباً أهلية طاحنة، ليست مجرد صراع على السلطة بين الجيش الوطني وفصيل مسلح، إنما هي نار تأكل الأخضر واليابس، وتذوق الشعب الواحد ألم التشرد والجوع والموت، في خضم هذه الأحداث الدامية، تبرز الآية الكريمة كمنارة هدى ومسار واضح للخلاص، قال تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات: 9).

إن هذه الآية الكريمة تقدم خارطة طريق ربانية متكاملة لمعالجة نزاع السودان، يمكن تفصيلها على النحو التالي:

أولاً: الإقرار بالخطر والنداء للإصلاح:

(وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)؛ الآية تبدأ بافتراض وقوع القتال بين «طائفتين من المؤمنين»، وهذا اعتراف بحقيقة النفس البشرية وإمكانية وقوع الخلاف حتى بين من يجمعهم إيمان، المهم هنا ليس إنكار وقوع القتال، بل سرعة التحرك لإخماده، هذا هو الدور الذي يفترض أن تؤديه كل قوى الخير داخلياً وإقليمياً ودولياً، من خلال وساطات متعددة، وضغوط دبلوماسية، ونداءات عقلاء الأمة، بهدف واحد؛ «فأصلحوا بينهما»، لإيقاف نزيف الدماء فوراً، وإعادة طرفي النزاع إلى طاولة الحوار العقلاني.

ثانياً: مواجهة البغي والعدوان:

(فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِى)؛ إذا استمرت إحدى الطائفتين في البغي والاعتداء، ولم تُجدِ محاولات الإصلاح نفعاً، جاءت المرحلة الثانية الأكثر حزماً، والبغي هنا يعني تعدي الحدود، وممارسة الظلم، ورفض الإذعان والانصياع للحق، وتوجه الآية إلى مقاتلة الفئة الباغية حتى تعود إلى أمر الله، والمقصود بهذا وقف الاعتداء وإنهاء الأعمال العدائية، والرجوع إلى العدل والإنصاف.

يمثل هذا التوجيه أساساً أخلاقياً وقانونياً في التعامل مع الطرف المعتدي، ويُشرعن الدفاع الجماعي عن النفس، سواء من قِبَل الشعب السوداني نفسه، أو عبر تدخل المجتمع الدولي عند الضرورة، في إطار مبادئ حماية المدنيين وفق أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة (United Nations Department of Peace Operations, 2023)(1)، وذلك لردع الباغي ووقف عدوانه.

ثالثاً: العدل هو الغاية النهائية:

(فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا)؛ هنا تكمن عبقرية المنهج القرآني؛ فالحل ليس إبادة الطرف الباغي، بل ردعه فقط، وبمجرد أن يفيء ويتراجع عن بغيه (بمعنى توقف عدوانه وتسليم سلاحه للجيش السوداني المنوط بحماية البلاد)، تعود الأولوية إلى «الإصلاح بالعدل»، فالقتال ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة رادعة مؤقتة لاستعادة الحق وإقامة العدل وبسط الأمان، فالغاية النهائية المصالحة الشاملة القائمة على العدل، وليس الانتقام أو الإذلال، وعليه يجب أن تتحول كل الجهود بعد وقف القتال إلى معالجة جذرية لأسباب الأزمة؛ تقاسم السلطة والثروة، وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي، ونزع السلاح وتوحيد الجيش تحت راية وطنية واحدة.

رابعاً: ثمرة الإقساط:

(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)؛ خاتمة الآية الكريمة تذكرنا بالحافز الأكبر؛ محبة الله، عندما يقسط القادة والوسطاء ويعدلون، وعندما ينحاز الجميع لشرعية الدولة ومؤسساتها ويقاتلون البغاة حتى يفيؤوا، فإنهم ينالون محبة الله تعالى، هذه المحبة هي الضمان الحقيقي للاستقرار والبركة، إن السلام القائم على الظلم أو على مهادنة البغاة والمليشيات المسلحة سلام هش، أما السلام القائم على العدل وإعادة هيبة الدولة فهو السلام الدائم الذي ترعاه السماء.

إن حرب السودان ليست قدراً محتوماً، والآية الكريمة تقدم برنامجاً عملياً وخلاقاً للخروج من هذا النفق المظلم، فهي دعوة ملحة لوضع الأمور في نصابها الصحيح؛ فالجيش السوداني الوطني هو المؤسسة الشرعية الوحيدة التي يحق لها حمل السلاح، خاصة الثقيل منه، والدفاع عن البلاد، وبحسب معايير الشرع، تُعد الجهة التي تبدأ بالعدوان أو ترفض وقف القتال هي الفئة الباغية، وعليه فإن المليشيا المسلحة هي التي يجب أن توقف عدوانها وتسلم سلاحها وتتقي الله.

ولتتقدم قوى الإصلاح، وليواجه الباغون بحزم حتى يعودوا إلى رشدهم ويسلموا سلاحهم للجيش الوطني، ثم لتبن المصالحة على أسس متينة من العدل والإنصاف.

ولا يكتمل طريق الإصلاح بمجرد إسكات أصوات الأسلحة، بل إن على الدولة مسؤوليات جمة جوهرية تلي مرحلة وقف القتال ونزع السلاح، حتى لا تعود الأزمة للاشتعال من جديد، وتشمل هذه المسؤوليات: تفعيل العدالة الانتقالية لمعالجة الانتهاكات وكشف الحقائق وجبر الضرر الحاصل (United Nations Integrated Transition Assistance Mission in Sudan [UNITAMS], 2023)(2)، وإطلاق مسار مصالحة وطنية شاملة يشارك فيه جميع أطياف المجتمع دون إقصاء، مع ترسيخ ثقافة التسامح وسيادة القانون.

كما يتعين على الدولة الشروع في إعادة إعمار ما دمرته الحرب، وبناء مؤسسات قوية قادرة على حماية أمن البلاد وتحقيق تنميتها، وتوحيد الجيش تحت راية وطنية واحدة تمنع تكرار سيناريوهات التفلت المسلح، فهذه الخطوات الركيزة الحقيقية لاستقرار طويل الأمد، وهي التي تُحول وقف القتال إلى سلام مستدام يليق بشعب السودان.

شعب السودان الكريم الذي طالما تغنى بوحدته وأخوته، أولى بأن تتوقف يد الغدر عن تمزيقه، وأحق بأن ينعم بسلام عادل يكون نهاية لهذا الكابوس، وبداية لعهد جديد من الاستقرار والازدهار.




_______________

(1) United Nations Department of Peace Operations. (2023). Protection of civilians policy: The protection of civilians in United Nations peacekeeping. https://peacekeeping.un.org/sites/default/files/2023_protection_of_civilians_policy.pdf

(2) United Nations Integrated Transition Assistance Mission in Sudan (UNITAMS). (2023, March15). ما هي أبعاد العدالة الانتقالية؟ وما أهميتها بالنسبة للسودانيين في سياق العملية السياسية؟ UNITAMS. https://bit.ly/49fCx8k

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة