المنهج القرآني في الاستدلال على وجود الله (1)
محمود
محمد مزروعة
تعدّد الأسلوبُ
الذي اتخذه القرآنُ الكريم في الاستدلال على وجود الله -سبحانه وتعالى- وعظيم
قدرته وجليل حكمته، والقرآن الكريم قد جعل هذه الأدلة درجات تتناسب مع كافة
مستويات خلق الله؛ فهناك الأدلة التي تقوم على المحسوس لتناسب المستويات الدنيا في
التفكير لدى السذّج والعوام، وهناك الأدلة التي تقوم على المجردات والتي تتطلّب
مستوى عاليًا من الفكر المنظّم، ثم هناك أدلة بين هذه وتلك، لتناسب مَن هم بين
هؤلاء وأولئك.
وفي مقالنا هذا
سوف نلمِح إلى شيء من المزايا التي امتاز بها المنهج الاستدلالي في القرآن الكريم
على ما عداه من المناهج الأخرى التي اعتمد عليها المتكلّمون والفلاسفة وغيرهم من
المفكرين الذين لم يَقْنَعوا بما ورد في القرآن من أدلة، ولم يسيروا على النحو
القرآني، وإنما اخترعوا لأنفسهم مناهج، ووضعوا على أساسٍ منها أدلةً كثيرة
ومتنوّعة، وسنوضح في هذه المقالة قصور هذه المناهج، وتهافت أدلتها التي بُنِيت
عليها.
وابتداءً سوف
نلمح إلى شيء من المزايا التي انفرد بها المنهج القرآني، في الاستدلال على وجود
الله -سبحانه وتعالى- وعلى صفاته وأفعاله، ونقول: «إلى شيء من هذه المزايا»؛ لأنّ
حصر المزايا القرآنية جميعها ليس يدخل تحت استطاعة بشر، فالقرآن الكريم دائمًا فيه
الجديد، وهذا الجديد يتناول كلّ موضوعٍ يبحثه وكلّ مجالٍ يتطرّق إليه، ومن هنا كان
ميدان الاجتهاد للتوصل إلى هذا الجديد مفتوحًا دائمًا أمام كلّ مسلم صادق النية،
سليم الطوية، عنده قدر من الذكاء، وقدر أكبر من توفيق الله -سبحانه وتعالى-.
ومن الواضح أن
كلّ ميزة نذكرها للمنهج القرآني، يوجد في مقابلها نقص في المناهج البشرية، وهذا
النقص في المناهج البشرية هو الذي يوضح بجلاء ما في منهج القرآن من المزايا؛ ولذا
فلعلّه من الأوفق أن نشير بجانب كلّ ميزة للمنهج الرباني إلى ما يقابلها من نقص في
المنهج الإنساني.
على أنه ينبغي
علينا أن ننبه إلى مرادنا هنا من استعمال لفظة (منهج) بجانب فعل الحقّ -سبحانه
وتعالى- من حيث إنّ المراد بالمنهج هو مجموعة القواعد التي يتكوّن منها أسلوب
معيّن يلتزمه الفاعل إزاء فعلٍ ما. وهذا أن يكون هو نفسه واضع تلك القواعد
ومؤسّسها، أو واضع هذا المنهج، فالفاعل لا بد أن يخضع لقواعد المنهج وأن يتقيد به
حتى لو كان هو واضعه، بل إن ذلك يجعله أكثر تقيُّدًا والتزامًا بتلك القواعد التي
وضعها، فالمنهج -إذن- هو قيد يحدّ من حرية الفاعل، ويضعه في إطار من الجبر، ونحن
لا نقصد هذا المعنى حين نتكلم عن فعل الحقّ -سبحانه وتعالى-؛ فالحقّ سبحانه منزّه
عن الجبر، وله الإرادة التامة، والمشيئة المطلقة، ولكنا نقصد من كلمة (منهج) بجانب
كلام الله سبحانه أن نتلمّس تلك الأسس التي امتاز بها القرآن الكريم في طريقته
الاستدلالية، وأن نصوغ من هذه الأسس -بقدر ما نستطيع- منهجًا نتبعه نحن، إذا أردنا
أن نقوم -في هذا المجال- بشيء يستحق الذِّكْر.
وأهم ما استطعنا
أن نصل إليه من مميزات المنهج القرآني في الاستدلال ما يأتي:
أولًا: أن
القرآن الكريم -كما أشرنا سابقًا- يوجّه أدلته إلى الناس أجمعين، بكلّ طوائفهم
وفئاتهم، والقرآن الكريم يرعى تلك الفوارق الضرورية في الفهم والوعي والثقافة،
وعامة جميع فوارق الإدراك، فيخاطب الجاهل الساذج بأدلة تتفق مع إدراكه، ويخاطب
الذكي العالم بأدلة تتفق مع علمه وذكائه، ويخاطب الذين هم بين هؤلاء وأولئك من
مستويات على قدر مستوياتهم.
وإلى جانب هذه
الميزة للمنهج القرآني نرى ذلك النقص الواضح في المناهج البشرية، حيث يضع كلُّ
فريق أدلتَه على صورة لا يمكن أن يفهمها غيرهم، فالفلاسفة يضعون أدلة لا يفهمها
إلا الفلاسفة وكذلك المتكلمون، فالمفكر من هؤلاء كان يجهد نفسه في إقامة الدليل،
وكان هذا الدليل يخرج صورة لنفسية صاحبه ونوع ثقافته.
ولقد أتى على
هؤلاء المفكرين حينٌ من الدهر كانوا يضعون هذه الأدلة لا للتدليل على وجود الله
تعالى وصفاته وأفعاله، ولكن لإظهار براعتهم وذكائهم ومدى تمكّنهم من فنونهم،
وطبيعي أن هذه الأدلة -على هذه الصورة- هي عقيمة الإنتاج ضئيلة الفائدة، وأنّ
دليلًا مشهورًا لدى المتكلمين، هو دليل الحدوث، لهو أعجز من أن يجعل كافرًا يؤمن،
أو يزيد مؤمنًا إيمانًا، وأكثر منه عقمًا ما يسمى بدليل الإمكان، وعلى مثل ذلك في
بقية الأدلة عند هؤلاء وأولئك.
ثانيًا: أن
المنهج القرآني يقوم على إقناع الإنسان بجانبيه الوجداني والعقلاني، فالإنسان -كما
هو معروف- مركَّب من جانبين؛ جانب وجداني، وجانب عقلاني. وكلّ من هذين الجانبين له
أسلوبه الذي يعالَج به، فليس يُقنِع الجانب الوجداني ما يُقنِع الجانب العقلاني،
والعكس صحيح. وحين نقتصر في محاولاتنا إقناع الإنسان بقضيةٍ ما على مخاطبة جانب
واحد فإنّ تلك المحاولات تفشل يقينًا، ولا تؤتي ثمارها المرجوّة، وقصارى ما نصل
إليه في تلك الحال هو أن نخلق نوعًا من الشك والحيرة لدى الإنسان، ولكنا -أبدًا-
لن نصل إلى مرتبة الإقناع؛ لأنّ الوصول إلى تلك المرتبة رهنٌ بتضافر الوجدان
والعقل جميعًا.
إذا عرفنا ذلك،
استطعنا أن نضع أيدينا على العلّة ومكمن الداء في تلك الحال المحيّرة، حين نرى
دليلًا من الأدلة وقد صيغ على درجة كبيرة من الدقّة والصياغة المنطقية، ولا نكاد
نضع أيدينا على خلل منطقي فيه، ولكنا -رغم ذلك- نجده عديم الثمرة، عقيم الإنتاج،
لا يشعرك بشيء من اليقين فيما سيق من أجله، ولا تحسّ بأنه يفرض عليك شيئًا أو
يلزمك بشيء، وما ذلك إلا لأنه أهمل جانبًا مهمًّا من جانبَي شخصية الإنسان.
وإنك حين تدرك
أن الدِّين في كلّ قضاياه يعتمد على الجانب الوجداني أكثر من اعتماده على الجانب
العقلاني، فإنك تدرك أن الأدلة التي صيغت بأسلوب عقلي محض لم تفقد الجانب المهم
فحسب، بل فقدت الجانب الأهم، حين عَرَت عن كلّ ما يخاطب الوجدان ويأسره.
وعلى هذا النقص
الواضح والقصور الذي لا يخفى سارت كلّ أدلة المتكلمين والفلاسفة؛ ولذا لم نحس
أبدًا أن هذه الأدلة قد جعلت الكافر يؤمن أو زادت المؤمن إيمانًا، بل لعلّ ضررها
كان أوضح حين يقرؤها من لا يتعمق في دين الله، فيتوهم أن هذا الدين إنما يقوم على
أساس من هذه القواعد التي لا تحرك فيه شعورًا ولا وجدانًا، فيحسّ بنوع من خيبة
الأمل، وربما شعر بدبيب الشك يراود نفسه المؤمنة.
وعلى العكس من
ذلك كانت أدلة القرآن الكريم، فهي أدلة عقلية في المستوى الأسمى من حيث الدقة
والإصابة، ولكنها لم تأتِ في تلك الصورة الجامدة التي تأنفها الفطرة، وينفر منها
الطبع، وإنما سيقت هذه الأدلة في جوّ وجداني يأسر القلب، ويستأثر بالوجدان، ويهزّ
المشاعر، ويستجيش العواطف والأحاسيس، فهي إذن أدلة تخاطب الإنسان بكلّ نواحيه؛
تخاطب العقل بلغته، والوجدان بلغته. ولعلّ هذا سرّ من أسرار الإبداع القرآني.
واقرأ في ذلك
-على سبيل المثال- قوله تعالى من أول سورة «الرعد»: (المر
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ
وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ {1} اللّهُ الَّذِي رَفَعَ
السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ
الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ {2} وَهُوَ
الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ
الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) إلى قوله تعالى: (كَذَلِكَ
يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ) (الرعد: 17).
________________
المصدر: مجلة
«كلية أصول الدين والدعوة الإسلامية» بالمنوفية، جامعة الأزهر، المجلد (1)، العدد (1)،
عام 1981م، ص106.