ماذا لو وُلِد «أحلم العرب» في إسبرطة؟!

عبدالقادر وحيد

28 سبتمبر 2025

450

تخيل أن البداية كانت هناك فوق سفوح جبال إسبرطة في تاريخ الإغريق، حيث كانت تتم أقسى عملية فحص بدني شهدها التاريخ.

الفحص البدني كان يشرف عليه سادة وشيوخ إسبرطة الذين لا يعصى لهم أمر، إذ يقدم إليهم المواليد الجدد، ومن تظهر عليه أي إعاقة جسدية أو ضعف في البنية الجسمانية فمصيره الموت قطعاً.

وحشية العالم القديم

كان الموت حلقة مرعبة من ضمن حلقات تاريخ الإغريق القديمة، التي كانت تنتهجها مدينة إسبرطة في عالمها القديم؛ وتحوّلت إلى ثكنة عسكرية، ولأجل حفاظها على قوتها العسكرية وسلامة مقاتليها البدنية، لم يكن للضعيف بينهم حياة أو لذوي الإعاقة رعاية، بل القتل بقذفهم من أعالي جبال مدينتهم، فتتلقاهم الصخور فتقطع أوصالهم، وتنهش السباع بقايا أجسادهم الغضّة.

أفلاطون الفيلسوف الذي ملأ الدنيا فلسفة رأى، وهو يكتب «الجمهورية»، أن هذا الذي تنتهجه مدينة إسبرطة هو النظام المثالي الذي ينبغي أن يكون عليه الحكم، وأن لديها من الصرامة والقانون ما يجب أن يحتذى به(1).

تعجبت وأنا أكتب هذه السطور حينما كان الخليفة هارون الرشيد يتوضأ وتذكر قول الله تعالى عن فرعون: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الزخرف: 51)، فقال: «ما كان أَرْقَعَه، فكيف لو رأى بغداد؟!»(2).

فكيف لو رأى أفلاطون وهو يكتب جمهوريته معجباً بإسبرطة وقوانينها المجحفة، كيف لو رأى الإسلام وعظمته ورحمته بالضعيف وأفسح له المجال وعظّم واحتضن طاقاته؟! حتى ظهر من هؤلاء الضعفاء بنية الكبار عقلاً؛ أحلم العرب أبو بحر الأحنف بن قيس، والأحنف لقب له، وإنما اسمه الضحاك، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره.

وكان سيداً شريفاً مطاعاً مؤمناً، عليم اللسان، يضرب بحلمه المثل وله أخبار في حلمه سارت بها الركبان.

صفات الأحنف بن قيس

كان إذا غضب، غضب له 100 ألف سيف لا يسألونه فيما غضب، لم ينظروا لجسده النحيل أو قدمه المعوجة، حيث كان يمشي على ظهرها فلذلك لقب بالأحنف.

لم ينظروا إلى أعضائه وخِلْقَتِه، بل نظروا إلى أخلاقه وعقله، فقد ولد ملتصق الإليتين حتى شقّ، وكان متراكب الأسنان صغير الرأس مائل الذقن، وكان أحنف الرجلين جميعاً، ولم يكن له إلا بيضة واحدة (خصية واحدة)(3).

تخيل في هذا المشهد الإسبرطي أن يكون الأحنف بن قيس قد ولد، فلن يكون له إلا طريق الردى من فوق الجبال الشاهقة ليذوب جسده الناعم الغضّ على حجارتها القاسية أو تتلقفها السباع في الوديان، لتتلهى به فهو وجبة غضة لا تسدّ جوعها، ولغمره النسيان كما غمر أطفال إسبرطة الذين لم نعلم عنهم شيئاً إلا هذا المشهد والنهاية المرعبة.

الأحنف صار في الإسلام أحلم العرب وطبّقت شهرته الآفاق، وسارت به الركبان في الجبال والوديان تتيه بحلمه وتتغنى بأفعاله.

ضرب به المثل في الحلم وصار يطلق على كل حليم «حلم أحنف»، وهو الذي قصده شاعر العربية أبو تمام، حينما كان يسوّق لممدوحه وأنه جمع سجايا وصفات الخير(4):

إقدام عمرو في سماحة حاتم       في حلم أحنف في ذكاء إياس

عجائب المفارقات

كان المجتمع الإسبرطي قد رسم حياة مواطنيه، فالضعيف لا مكان له بينهم، يريدون المقاتلين فقط، ولأجل تنشئتهم تنشئة عسكرية يتم انتزاع الولد من أسرته ووضعه في ثكنة عسكرية، وقسموا مراحل عمره من السنة الأولى وحتى الثلاثين، كل فترة لها قوانينها الصارمة.

يبيت في العراء، يجلد بالسياط، لا يتزوج إلا بعد العشرين، وأيام محددة يقضيها مع زوجته.

يسمح له بالسرقة في بعض الأحيان، أما البنات فلم يكن حالهنّ بأفضل من حال الشباب، بل زادوا الطين بلّة، فقد سمح لهن بالرقص والظهور عرايا أمام الشباب، حتى يقتلن فيهن الحياء، ويكون الشباب أضبط لغرائزهم، في مفهومهم التربوي.

أخلاق الأحنف وتدينه

أما الأحنف بن قيس الذي صار من أكبر سادات العرب بحلمه رغم كل صفاته البدنية، فكانت من حِكَمِه وجميل أقواله:

  • جنبوا مجلسنا ذكر النساء والطعام، فإني أبغض الرجل يكون وصافاً لفرجه وبطنه، وإن من المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه.
  • ما خان شريف ولا كذب عاقل ولا اغتاب مؤمن.
  • ما ادّخرت الآباء للأبناء ولا أبقت الأموات للأحياء أفضل من اصطناع معروف عند ذوي الأحساب والآداب.
  • كثرة الضحك تذهب الهيبة، وكثرة المزاح تذهب المروءة، ومن لزم شيئاً عرف به.
  • لا خير في قول بلا فعل، ولا في منظر بلا مخبر، ولا في مال بلا جود، ولا في صديق بلا وفاء، ولا في فقه بلا ورع، ولا في حياة إلا بصحة وأمن.
  • سمع رجلاً يقول: ما أبالي أمدحت أم ذممت، فقال له: لقد استرحت من حيث تعب الكرام.
  • ألا أخبركم بأدوأ الداء الخلق الدنيء واللسان البذيء.
  • إذا تعجبوا من حلمه قال: والله إني لأجد ما يجدون، ولكني صبور.
  • فيّ ثلاث خصال ما أقولهن إلا للعبرة: ما دخلت بين اثنين قط حتى يدخلاني بينهما، ولا أتيت باب أحد من الملوك، ولا حللت حبوتي إلى ما يقوم الناس إليه(5).

لقد كان الأحنف يفرّ من الشرف، والشرف يتبعه، ولكنه لم يغرّه يوماً أو ينسَ آخرته، بل هي موطن وموئل شرفه الحقيقي، فقد قيل له: إنك كبير، والصوم يضعفك، قال: إني أعدّه لسفر طويل.

كان مدمناً لقيام الليل فعامة صلاته في جوفه، وكان يضع إصبعه على المصباح، ثم يقول: حسّ؛ ما حملك يا أحنف على أن صنعت كذا يوم كذا.

كان متواضعاً لينا، استعمل والياً ذات مرة على خراسان، فأجنب في ليلة باردة، فلم يوقظ غلمانه، وكسر ثلجاً واغتسل.

نقلة الإسلام الحضارية

عندما ترى المشهدين كإنسان قبل كل شيء؛ مشهد الأطفال وهم يحشدون إلى جبال إسبرطة لإلقائهم من فوق سفوحها بسبب ضعف بنيتهم، ورحمة الإسلام بالضعاف صغاراً وكباراً، تستشعر النقلة الحضارية التي صنعها الإسلام في جزيرة العرب خاصة، وكيف كان صلى الله عليه وسلم حقاً هو الرحمة المهداة للبشر عامة، ساعتها تجد قلبك وعقلك خاضعاً ومتأدباً بآداب الشريعة.

فالنهاية كانت بهديه صلى الله عليه وسلم بعبارات تجمع الحياة وتحافظ على الإنسان حسّاً ومعنى وتجعله مراقباً لأفعاله وضميره مع ربه والناس جميعاً.

لا مجتمع بدون رحمة؛ «الرّاحمون يرحمُهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» (أخرجه أبو داود).

لا مجتمع بلا حياء وبلا قيمة؛ «الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنّة، والبَذاءُ من الجفاء، والجفاءُ في النّار» (صحيح الترمذي).

لا مجتمع بلا رقابة ذاتية وإيمانية؛ «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» (جامع العلوم والحكم).

لا مجتمع بلا راحة وطمأنينة مجتمعية؛ «لا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً» (رواه البخاري، ومسلم).


اقرأ أيضا:

لماذا اهتز عرش الرحمن للصحابي سعد بن معاذ؟

«كاتم السر».. لماذا خُصَّ حذيفة بن اليمان بأسماء المنافقين؟

مليارديرات الصحابة!




________________

(1) د. أبو اليسر فرح: تاريخ اليونان.

(2) ابن كثير: البداية والنهاية.

(3) الذهبي: سير أعلام النبلاء.

(4) د. محمد أبو الأنوار: الشعر العباسي.

(5) ابن خلكان: وَفَيَات الأعيان.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة