الاقتصاد الإسلامي والأمن الفكري.. نحو إعادة بناء الإنسان
في زمن
تتعاظم فيه التحديات الفكرية والاقتصادية التي تواجه الأمة الإسلامية، وتغيب فيه
الرؤى التكاملية لصالح المقاربات التجزيئية، يبرز كتاب «الاقتصاد الإسلامي والأمن
الفكري: جدلية التكامل في بناء الإنسان والمجتمع»، تأليف أ.د. صالح حسن عرابي،
أستاذ الشريعة الإسلامية، وباحث دكتوراة فلسفة الاقتصاد، بمشاركة هبة جمال جاد،
باحثة دكتوراة فلسفة الاقتصاد، كمشروع فكري طموح.
ويأتي
هذا العمل ليجسد الحاجة الملحة إلى نموذج معرفي متكامل، يستعيد دور القيم الروحية
والأخلاقية في بناء الإنسان والمجتمع، مقدمًا رؤية شاملة تجمع بين فقه المال وفقه
العقل في إطار واحد.
يُعد د.
عرابي، الذي قدم نحو 150 مؤلفاً في مجالات الشريعة الإسلامية والاقتصاد والتصوف، وتُرجم
عدد منها إلى الإنجليزية والفرنسية، أحد الأصوات المؤهلة لقيادة مثل هذا الحوار
البيني بين العلوم، وبمشاركة الباحثة هبة جاد المتخصصة في الاقتصاد، يقدم الكتاب
ثنائية منهجية تجمع بين عمق التأصيل الشرعي ودقة التحليل الاقتصادي.
هيكلية الكتاب وأطروحته المركزية
ينطلق
الكتاب من إشكالية جوهرية، وهي «جدلية التكامل» بين الاقتصاد الإسلامي والأمن
الفكري، لا يقدم المؤلفان العلاقة بينهما على أنها علاقة سببية بسيطة، بل كحلقة
تفاعلية ديناميكية، فالنظام الاقتصادي العادل يخلق بيئة مستقرة تعزز الأمن الفكري،
وفي المقابل يقي الفكر السليم من الانحرافات التي تهدد كيان المجتمعات، وعليه يسعى
الكتاب إلى معالجة القصور الناتج عن الفصل بين الرزق والوعي في المنظومات المعرفية
المعاصرة، ولتحقيق هذا الهدف، يتبنى الكتاب منهجية متعددة المستويات، تجمع بين:
- التأصيل
الشرعي: من خلال استقراء النصوص القرآنية والسُّنة النبوية.
- التحليل
الفكري: لتفكيك الظواهر الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة.
- التأمل
الروحي: بإدخال مفاهيم مثل «اللطف الإلهي» كأساس لبناء سياسات اقتصادية رحيمة.
- الإطار
التطبيقي: بتقديم نماذج قابلة للتطبيق في المؤسسات التربوية والإعلامية.
ويقدم
الكتاب مجموعة من المفاهيم المركزية التي تشكل إطاره النظري، أبرزها:
- الاقتصاد
الإسلامي: ليس مجرد بديل تقني للنظم الوضعية، بل هو منظومة قيمية تهدف إلى تحقيق
العدالة وبناء الإنسان.
- الأمن
الفكري: ليس حماية سلبية من الانحراف، بل هو حالة إيجابية من الاتزان العقلي
والنفسي تمكن الفرد من التمييز بين الأفكار.
- الاستلاب
الاقتصادي: كتحليل نقدي لحالة فقدان الإنسان السيطرة على ذوقه العام وقيمه
المتجذرة تحت وطأة النظم المادية.
ولعل
أبرز الإضافات النوعية للكتاب تتمثل في:
1- الربط
الجدلي غير المسبوق: حيث يقدم العلاقة بين الاقتصاد والأمن الفكري كعلاقة تأثير
متبادل وتكامل بنائي، وليس مجرد ترابط سطحي.
2- إدخال
البعد الروحي (الصوفي): يُعد توظيف مفهوم «اللطف الإلهي» و«الاقتصاد الروحي» في
حقل الدراسات الاقتصادية إضافة جريئة تثري الطرح الأكاديمي الجاف وتعيد وصل العلم
بالقلب.
3-
النموذج التطبيقي: سورة «يوسف»: يختار الكتاب سورة «يوسف» كنموذج قرآني حي يجسد
التكامل العضوي بين الأبعاد الاقتصادية (تأويل الحلم، إدارة موارد الدولة)،
والفكرية (الابتلاء والتمكين)، والروحية (الصبر والتوكل) في نسيج قصصي متماسك.
4-
النقد البناء: لا يقتصر الكتاب على عرض نظريات الاقتصاد الإسلامي، بل يقدم قراءة
نقدية للأنظمة الاقتصادية التقليدية ويحلل آثارها السلبية على تشكيل الوعي الفردي
والجماعي.
تقييم نقدي وأهمية العمل
1- مكامن
القوة: تكمن قوة هذا الكتاب في قدرته على تقديم رؤية شمولية متكاملة تلامس مختلف
أبعاد الإنسان المادية والفكرية والروحية، كما يتميز بأصالته الموضوعية من خلال
فتح آفاق جديدة للبحث في العلاقة بين المنظومة الاقتصادية والهوية الفكرية، وإلى
جانب ذلك، يتسم الكتاب بتوجه عملي واضح، إذ لا يكتفي بالطرح النظري، بل يقدم
توصيات تطبيقية موجهة للمؤسسات التربوية والإعلامية؛ ما يضفي على العمل قيمة عملية
مضاعفة.
2-
مجالات للتطوير: على الرغم مما يحمله الكتاب من إضافات قيمة، فإن هناك مجالات يمكن
أن تكون محل تطوير، إذ إن اتساع فكرته وتشابك موضوعاتها بين الاقتصاد والتربية
والتصوف والفكر قد يُشكل تحديًا يستدعي مزيدًا من التفصيل في بعض الجوانب، كما أن
مفهوم «الاقتصاد الروحي»، على عمقه وإنسانيته، ما زال يثير تساؤلات حول إمكانية
ترجمته إلى سياسات اقتصادية قابلة للتطبيق على نطاق الاقتصاد الكلي، وهو ما يتطلب
جهودًا بحثية إضافية لتوضيح آفاقه العملية.
يُعد
هذا الكتاب إضافة نوعية وضرورية إلى المكتبة الإسلامية المعاصرة، إذ يخاطب شريحة
واسعة من القراء والباحثين، وفي مقدمتهم المتخصصون في الاقتصاد الإسلامي والعلوم
الاجتماعية والفكر الإسلامي، كما يوجه إلى صانعي السياسات والمخططين في مؤسسات
الدولة المعنية بالتنمية المجتمعية، فضلاً عن المهتمين بفلسفة الاقتصاد والدراسات
المتكاملة التي تسعى إلى دمج المنظور المادي بالبعد الروحي، بما يعزز من عمق الطرح
وشموليته.
باختصار،
«الاقتصاد الإسلامي والأمن الفكري: جدلية التكامل في بناء الإنسان والمجتمع» ليس
كتاباً عادياً، بل هو مشروع فكري حضاري يسعى إلى إعادة تشكيل الوعي المسلم على أسس
تكاملية، إنه محاولة جادة لبناء إنسان متوازن يجمع بين صلابة الاقتصاد، وسلامة
الفكر، وصفاء الروح؛ ما يجعله لبنة مهمة في طريق استعادة المجد الحضاري للأمة.