أحكام الشريعة الإسلامية بين الرحمة والعدل

ظل العالم طويلاً يبحث عن قيم الرحمة حيناً، والعدل حيناً آخر، فمرة يصيب هنا، وأخرى يصيب هناك، وقليل جداً ما نجح في تطبيقهما تطبيقاً كاملاً، وظل هكذا متخبطاً في أحسن حالاته حتى أتى الإسلام، ليجمع بين العدل والرحمة في براعة لا تستطيعها الشرائع الأرضية مهما بلغت دقتها، حتى في العالم الحديث.

وفي إحدى محاكم الكوفة جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه، خليفة المسلمين، ليقاضي رجلاً يهودياً تنازع معه في درع، وقف عليّ أمام القاضي شريكاً لا حاكماً، وأخذ القاضي شهادته كأي رجل من عامة الناس، خرج اليهودي من المحكمة متأثراً بعدل الإسلام، فأعلن إسلامه.

هذا المشهد التاريخي يلخص فلسفة الشريعة الإسلامية؛ رحمة تحفظ للإنسان كرامته، وعدل يرفع عنه الظلم، فأي قانون عالمي اليوم استطاع أن يعدل بين الناس ويرحمهم ويوقفهم أمامه سواء، مثل هذا القانون والتاريخ الناصع البياض؟!

هل يتعارض العدل مع الرحمة؟ الشريعة الإسلامية تقدم الميزان الدقيق

العدل والرحمة من أصول التشريع الرباني

باستقراء أحكام الشريعة الإسلامية، نجد توازناً عجيباً بين الرحمة والعدل في كل حكم على حدة، حتى إن بعض الأحكام لا يظهر المقصد منها، فالأصل في الحكم التعبد دون النظر إلى الحكمة والمقاصد، ولم نجد حكماً بني على القسوة أو التشدد، بل بنيت لتحقيق الرحمة بالخلق، وتحقيق العدل بينهم، فيقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، كما وصفها عز وجل بقوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد: 25).

فالرحمة والعدل في الشريعة الإسلامية ليسا متقابلين أو متضادين، بل هما متكاملان يشكلان الإطار الأخلاقي والقانوني الذي يوجه حياة الإنسان فرداً وجماعة.

الرحمة أصل من أصول التشريع الإسلامي

ورد لفظ الرحمة في كتاب الله في نصوص عديدة لا نستطيع حصرها في مقال واحد، لكنها تدل في مجملها على أنها غاية الله في خلقه، وغاية المؤمنين في أعمالهم، يقول تعالى: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران: 8)، ويقول سبحانه: (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (آل عمران: 107)، ويقول سبحانه واصفاً رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته: (فبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران 159).

واهتم النبي صلى الله عليه وسلم بخلق الرحمة، فعن عبدالله بن عَمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء» (رواه الترمذي)، وعن أنس قال: «والله ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم» (رواه مسلم).

وعن الرحمة في الحروب ومع الأسرى، يروى عن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا فلا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا) (رواه البخاري).

وعن الرحمة مع الكافر، كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم قائلاً: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» (رواه البخاري)، وعن الرحمة مع العاصي: يروي أبو هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ برجل قد شرب الخمر، فقال: «اضربوه»، فمنا الضارب بيده، والضارب بثوبه، والضارب بنعله، ثم قال: «بكتوه»، فأقبلوا عليه يقولون: ما اتقيت الله؟! ما خشيت الله؟! وما استحييت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال بعض القوم: أخزاك الله، قال: «لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان، ولكن قولوا: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه» (رواه أبو داود).

وحتى الرحمة مع الحيوان لم يغفلها النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينا رجل بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئراً، فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى (التراب) من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له»، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً؟ فقال: «في كل ذات كبد رطبة أجر» (رواه البخاري).

وفي تطبيق الأحكام، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخفف عن الأمة ويكره التشديد، فقال: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» (رواه البخاري، ومسلم)، ففي العبادات رخص الإفطار في السفر، وفي المعاملات حرم الربا رحمة بالفقراء، وفي العقوبات شرع مبدأ درء الحدود بالشبهات.

الشريعة الإسلامية: تشريع رباني يوازن بين إقامة العدل وتحقيق الرحمة

 العدل غاية الشريعة ومقصدها الأسمى

مثلت قيمة العدل في النصوص الشرعية أهمية توازي قيمة الرحمة، وبذلك تكتمل صورة التشريع في الإسلام وتتوازن لتحقيق المقصد الإسلامي بضمان سعادة الإنسان في الدارين، يقول تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) (النحل: 90)، وقال أيضًا: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8)، عن العدل بين الناس، فقيرهم وغنيهم، صغيرهم وكبيرهم، قويهم وضعيفهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد» (رواه البخاري، ومسلم).

وفي الاقتصاد، نظام الزكاة يحقق عدلاً اجتماعياً بتوزيع الثروة.

وفي الحقوق، المساواة بين الناس بغض النظر عن النسب أو العرق أو اللون.

العلاقة بين الرحمة والعدل(1)

ومن سوء الفهم أن يتصور البعض أن من الرحمة التنازل عن قيمة العدل، أو أن هناك تعارضاً بين الرحمة والعدل، لكن الحقيقة أن الشريعة الإسلامية قد مزجت بين القيمتين بميزان دقيق حققت من خلاله تشريعاً دقيقاً عجزت البشرية عن الإتيان بمثله.

فعلى سبيل المثال، في الحدود الشرعية يطبق العدل في تنفيذ الحكم بعد استنفاد وسائل الرحمة والبحث عن كافة الأدلة، فإذا لم تكن الأدلة كافية تدرأ الحدود بالشبهات وتطبق الرحمة، وإذا توفرت الأدلة الشرعية بشهادة الشهود العدول أو الاعتراف تم تنفيذ الحد عدلاً لصاحب الحق.

وفي الطلاق قد يكون من الرحمة التفريق بين زوجين غير متحابين ووجودهما معاً قد يضطرهما للوقوع في الحرام، لكن العدل يجب أن يكون حاضراً في حقوق كلا الطرفين من نفقات وغيرها.

 




_________________

(1) مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية للدكتور يوسف القرضاوي (بتصرف).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة