رؤية الذكاء الاصطناعي لإعادة إعمار غزة
تخوض غزة اليوم
معركتها الأصعب منذ نكبتها الأولى، معركة تتجاوز البقاء لتطال معنى الإعمار ذاته،
فليست القضية في إعادة بناء ما تهدم من حجارة، بل في إعادة بناء اقتصاد قادر على
الحياة في ظل الحصار والدمار.
وبينما تشير
التقديرات المشتركة للبنك الدولي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة إلى أن حجم
الأضرار المادية والاقتصادية التي لحقت بالقطاع تجاوز 53 مليار دولار حتى فبراير
2025م؛ أي ما يعادل ضعف الناتج المحلي الإجمالي لغزة والضفة الغربية قبل الحرب،
تطرح هذه الأرقام تساؤلاً جوهرياً حول جدوى الأساليب التقليدية في الإعمار، وحول
الحاجة إلى نموذج جديد أكثر كفاءة واستدامة، وفي هذا السياق، يبرز الذكاء
الاصطناعي كأداة اقتصادية إستراتيجية يمكنها أن تعيد تعريف مفهوم الإعمار ذاته.
الاقتصاد الفلسطيني
قبل الحرب، كان
الاقتصاد الغزي هشاً ومتداعياً، يعاني من اختناق مزمن بفعل الحصار المفروض منذ
أكثر من 17 عاماً، إذ لم يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي للقطاع عام 2022م حاجز 3.6
مليارات دولار، فيما بلغت معدلات البطالة 46%، والفقر نحو 60% من السكان، وقد جاءت
الحرب الأخيرة لتقضي على ما تبقى من مقومات النشاط الاقتصادي، حيث انكمش الناتج
المحلي بنسبة 83% خلال عام واحد، وتراجعت مساهمة غزة في الاقتصاد الفلسطيني إلى
نحو 3% فقط، وبلغت البطالة 80%، فيما أصبحت نسبة الفقر متعدد الأبعاد تتجاوز 97%.
وتظهر هذه
الأرقام أن غزة لم تعد بحاجة إلى مجرد إعمار هندسي للبنية التحتية، بل إلى إعادة
إعمار اقتصادي شامل يقوم على إدارة الموارد المحدودة بأقصى درجات الكفاءة، هنا
تتضح القيمة الإستراتيجية للذكاء الاصطناعي بوصفه أداة اقتصادية قادرة على رفع
الكفاءة الحدية للإنفاق العام وتعظيم العائد الاجتماعي للاستثمار.
فالذكاء
الاصطناعي ليس ترفاً تقنياً، بل آلية لتقليل الفاقد الاقتصادي وتسريع دورة القرار،
وتظهر الدراسات الحديثة أن الاعتماد على خوارزميات تحليل الصور الفضائية والتعلم
العميق يمكن أن يقلص زمن تقييم الأضرار من أسابيع إلى أيام، بدقة تتجاوز 85%، وفي
تجارب سابقة مثل اليابان بعد زلزال توهوكو عام 2011م، مكنت أنظمة الذكاء الاصطناعي
السلطات من تحليل صور الأقمار الصناعية وتحديد المناطق المتضررة خلال أقل من 72
ساعة؛ ما سمح بتوجيه فرق الإنقاذ والتمويل بكفاءة عالية وتقليل الخسائر الاقتصادية
اللاحقة.
وتطبيق نموذج
مشابه في غزة يمكن أن يخفض كلفة المسوحات الميدانية بنسبة تصل إلى 60%، ويوفر مئات
الملايين من الدولارات التي يمكن إعادة توجيهها نحو مشاريع ذات أثر اجتماعي مباشر.
لكن القيمة
الحقيقية للذكاء الاصطناعي تتجلى في مرحلة التخطيط، إذ يمكن للتوأم الرقمي (Digital Twin)، ونمذجة معلومات البناء (BIM 4D/5D)، أن يقدما أدوات استثنائية لمحاكاة السيناريوهات المختلفة قبل
التنفيذ؛ ما يتيح تقييم الأثر المالي والزمني والاجتماعي للمشروعات المقترحة مسبقاً.
وقد أثبتت
دراسات حديثة أن استخدام هذه التقنيات في إعادة الإعمار يقلل انحرافات الوقت
والكلفة بنسبة تتراوح بين 15 و20%، ويزيد من كفاءة تخصيص الموارد العامة؛ وبذلك
تصبح القرارات الاستثمارية مبنية على معايير الجدوى الاقتصادية لا على الضغوط
السياسية أو المزاجية؛ ما يؤدي إلى تعظيم العائد الاجتماعي على كل دولار يتم
إنفاقه.
الذكاء الاصطناعي
وفي بيئة معقدة
كغزة، حيث القيود اللوجستية تشكل أحد أكبر معوقات العمل، يمكن للذكاء الاصطناعي أن
يُحدث تحولاً جذرياً في كفاءة سلاسل الإمداد.
وتشير تقارير
الأمم المتحدة إلى أن الكلفة اللوجستية تمثل ما يقارب 60% من إجمالي الإنفاق
الإنساني في المراحل المبكرة من الإعمار، فيما أظهرت دراسات أن تطبيق خوارزميات
التنبؤ بالطلب وتحسين مسارات النقل خفضت التكاليف بنسبة 15 إلى 25% في تجارب
مشابهة.
وبالنسبة لغزة،
يعني ذلك إمكانية تخفيض تكاليف إدخال مواد البناء عبر المعابر وتقليل زمن الانتظار
بنسبة ملحوظة؛ ما يحد من ارتفاع الأسعار المحلية ويمنع نشوء أسواق سوداء في المواد
الحيوية، وهذا الأثر لا ينعكس فقط على الموازنة العامة، بل يساهم في تثبيت
الأسعار، وتحسين القوة الشرائية للسكان، وإعادة تنشيط الدورة الاقتصادية الداخلية.
ومن الزاوية
المالية، يعد الذكاء الاصطناعي رافعة للحوكمة والشفافية في بيئة تتسم بتعدد الجهات
الممولة وضعف الثقة بين المانحين والمؤسسات المحلية، إذ تسمح الأنظمة الذكية
بمراقبة التنفيذ المالي والميداني في الوقت الحقيقي؛ ما يرفع مستوى المساءلة ويقلل
من احتمالات الفساد والهدر.
وقد أظهر تقرير
مجلس الرؤساء التنفيذيين للأمم المتحدة للعام 2024م أن تطبيق الشفافية الرقمية أدى
إلى خفض الأخطار الائتمانية وتحفيز التدفقات المالية من المانحين بنسبة تصل إلى
30%، وأن الدول التي اعتمدت نظم متابعة رقمية متكاملة استطاعت تقليص الفاقد المالي
بنسبة 18% وزيادة جاذبية استثمارات البنية التحتية أمام القطاع الخاص.
ولا تقتصر أهمية
الذكاء الاصطناعي على ترشيد الموارد، بل تمتد إلى إعادة هيكلة المنظومة الاقتصادية
نفسها؛ إذ يسهم في خلق اقتصاد قائم على المعرفة والبيانات، يمكّن متخذي القرار من
التخطيط طويل الأجل على أساس مؤشرات كمية دقيقة، فكلما توفرت بيانات أعمق عن
الأضرار والاحتياجات والأخطار المستقبلية، أمكن توجيه التمويل العام نحو المشاريع
الأكثر تأثيراً، وهو ما يتسق مع توجهات الأمم المتحدة في تقريرها حول التحول
الرقمي لأهداف التنمية المستدامة، الذي أشار إلى أن تبني الحلول الذكية في الخدمات
العامة يمكن أن يخفض النفقات التشغيلية الحكومية بنسبة تصل إلى 15% في الدول
النامية.
وإذا تم تطبيق
هذا المبدأ على برامج إعمار غزة، فإن وفورات الكفاءة يمكن أن تعادل مليارات
الدولارات سنوياً؛ ما يجعل من التحول الرقمي رافعة مالية لا عبئاً إضافياً.
نموذج تنموي
وتقدر الدراسات
المستندة إلى نماذج البنك الدولي أن تحسين الكفاءة الحدية للإنفاق العام بنسبة 10 -
15% عبر تطبيقات الذكاء الاصطناعي قد يعيد تنشيط الناتج المحلي الغزي بما قيمته
600 مليون دولار سنوياً خلال السنوات الثلاث الأولى، ويخلق ما بين 40 و60 ألف
وظيفة مباشرة وغير مباشرة في قطاعات البناء، والطاقة، واللوجستيات، وتكنولوجيا
المعلومات.
هذه الأرقام لا
تمثل مؤشرات مالية فحسب، بل تعني إعادة ضخ الحياة في اقتصاد يوشك على الاختناق،
وتحويله من اقتصاد إغاثة يعتمد على المنح إلى اقتصاد إنتاجي يعتمد على الكفاءة
والمعرفة.
إن التجربة
المقترحة لإعمار غزة باستخدام الذكاء الاصطناعي يمكن أن تشكل نموذجاً عربياً رائداً
لإعادة بناء الاقتصادات المدمرة في سورية واليمن وليبيا والسودان، فدمج الذكاء
الاصطناعي في دورات التقييم والتخطيط والتنفيذ والحوكمة يتيح الانتقال من الإعمار
كعملية هندسية إلى الإعمار كمنظومة اقتصادية متكاملة تدار بالبيانات لا بالموازنات،
وهو ما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة في الفكر التنموي العربي، قوامها الاستثمار في
العقل قبل الحجر، وفي الكفاءة قبل التمويل.
إن الذكاء
الاصطناعي في سياق الإعمار لا يعني استبدال الإنسان بالآلة، بل تمكين الإنسان من
اتخاذ قرارات أفضل في بيئة معقدة، فكل دولار يستثمر في التحول الرقمي للإعمار يمكن
أن يوفر ما بين 3 إلى 5 دولارات من الهدر، ويضاعف سرعة التعافي الاقتصادي
والاجتماعي، وبذلك لا تصبح غزة مجرد منطقة منكوبة تبحث عن المساعدات، وإنما مختبر
عالمي لتجربة الإعمار الذكي، ونقطة انطلاق نحو نموذج تنموي جديد يوازن بين العدالة
الاجتماعية والتقدم التكنولوجي.
اقرأ
أيضاً:
ما العراقيل
الصهيونية لإعادة إعمار غزة؟