«صلح الحديبية».. قراءة جديدة في سيكولوجية فريق التفاوض

عندما يحل شهر ذي القعدة تحل معه ذكرى صلح الحديبية؛ الذي حمل نصراً عزيزاً
في باطنه، وإن تسبب في كسر قلوب الصحابة حينها.
اعتنى كُتّاب السيرة بصلح الحديبية وما تم فيه من شروط، وُصفت بالمجحفة في
حق المسلمين، ولكن كان هناك مكسب آخر، استغرق قرابة 20 عاماً من جهد النبي صلى
الله عليه وسلم في التخطيط، لتقف أمامه قريش مفاوضة بكل كبريائها وصلفها.
تكمن عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم في قراءة خلفية وسيكولوجية فريق
التفاوض؛ الذي كان معظمهم من عامر بن لؤي نسباً في قريش، وكانوا هم بمثابة الصف
الثاني في قريش، وليسوا من الصف الأول.
وللرجوع لتكوين قريش السياسي ومعرفة كيفية اتخاذ قراراتها، فإن جد النبي
صلى الله عليه وسلم قصي بن كلاب يعتبر هو المؤسس الحقيقي لقريش وصاحب قرارها
السياسي بلا منازع، وهو الذي جاء بجميع بطون قريش ووزعها حول الحرم، وأسند لها
مهام سياسية ودبلوماسية صارت من لوازم كل بطن من بطونها، حتى جاء الإسلام، وهم على
ذلك(1).
ولنعرف قيمة قريش ووزنها السياسي في مجتمع جزيرة العرب، يكفي أن أحفاده
الأربعة وعلى رأسهم جد النبي صلى الله عليه وسلم (هاشم، المطلب، عبد شمس، نوفل)؛
كل واحد منهم كان موكلاً بوفادة دبلوماسية على أحد ملوك الأرض الأربعة في ذلك
الوقت (قيصر، كسرى، الحبشة، اليمن).
تكرّس القرار السياسي وصار لا يستطيع أحد أن يخالفه مهما بلغ ثقله ووجاهته
في بني كعب بن لؤي؛ الذي ينحدر منهم معظم الصحابة الأوائل، دون شقيقه عامر بن لؤي؛
الذي ينحدر من نسله الصحابي الكبير سهيل بن عمرو.
وعندما تقرأ السيرة النبوية من أولها وحتى صلح الحديبية، لا تجد قراراً
سياسياً يقطع أو يتخذ دون مباركة من فريق كعب بن لؤي؛ الذي صار «يمينياً متطرفاً»،
وبلغت ذروة تطرفه في صعود أبي جهل؛ الذي كسر كل طرق التشاور في غزوة «بدر»، وركب
عناده وغطرسته، وأصرّ على القتال؛ ما تسبب في أكبر كارثة سياسية لحقت بقريش.
ولنقترب من هذا «اليمين المتطرف»، ولنعرف مدى تسلطه السياسي- لنا أن نتخيل
واحداً في قامة أبي سفيان بن حرب- الذي يملأ اسمه صفحات عصر الرسالة، كان صعوده
السياسي بعيداً كل البعد، لولا مقتل معظم زعماء «اليمين المتطرف» للمشركين في «بدر».
وعندما نرجع إلى الوراء قليلاً، لنكشف عبقرية القيادة، المتمثلة في شخص
النبي صلى الله عليه وسلم، الذي استطاع طيلة سنوات من الإعداد والترتيب أن ينهي
قوة هذا «اليمين المتطرف»، علينا أن نتذكر حالته وهو في مرحلة استضعاف المسلمين،
عندما أراد أن يأخذ أماناً (جواراً) من أحد أعضاء الفريق السياسي الآخر (عامر بن
لؤي) فرفض، وتعلل أنه لا يستطيع أن يعطي أماناً أو جواراً، دون مباركة من فريق كعب
بن لؤي المتطرف ومنهم أبو جهل.
العجيب أن هذا الشخص الذي رفض أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم في جواره
هو سهيل بن عمرو، وهو من بني عامر بن لؤي، وقد كان كبير المفاوضين في «صلح
الحديبية».
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث في مرحلة الاستضعاف إلى سهيل بن
عمرو، ليدخله في جواره، فرد عليه قائلاً: إن بني عامر لا تجير على بني كعب(2).
وعندما نقفز قفزة إلى الأمام، قرابة 13 عاماً من مرحلة الاستضعاف، إلى «صلح
الحديبية»، لتقرأ أسماء فريق التفاوض وخلفية حزبهم السياسي، الذين أدوا دورهم
الدبلوماسي؛ نجد أن أكبر الأسماء المفاوضة: مكرز بن حفص، عروة بن مسعود الثقفي،
سهيل بن عمرو، والأخير كتب السطور الأخيرة للمشركين في الصلح(3).
وبعيداً عن الأسماء، يكمن هناك بُعد آخر؛ وهو أن معظم فريق التفاوض هذه
المرة جميعهم من بني عامر بن لؤي، ولا يوجد هنا مكان لقيادات «اليمين المتطرف»
للمشركين.
وعند قراءة هذا التحول في الشخصيات المفاوضة، يتكشف مدى عظمة التخطيط
للقيادة الواعية، فالنبي صلى الله عليه وسلم بوصفه رجل الدولة، وبمثابرة وإعداد
وتخطيط استغرق معظم حياته بجميع مراحلها، استطاع أن يغيّب كل عناصر الصف الأول من «اليمين
المتطرف»، إما بالقتل المباشر في حروبه، أو بدخولهم الإسلام وانضمامهم إلى صفه.
في بواكير قراءتنا للسيرة النبوية، كنا لا نفهم عبارة لماذا لا يجير عامر
بن لؤي على كعب بن لؤي، حتى كشفها فريق التفاوض في «الحديبية» الذي كشف عن تخطيط
مبهر وقيادة واعية.
فريق التفاوض كشف أيضاً عن إفلاس دبلوماسي لدى قريش المتعنتة؛ حيث كان من
ضمن فريق التفاوض عروة بن مسعود الثقفي؛ وهو ليس من صلب قريش، هو بمجرد ابن ابنتهم
-أمه فقط قرشية- ولكن أدخلوه ليستفيدوا من خبرته الدبلوماسية التي باءت بالفشل
أيضاً(4).
فقريش المتغطرسة في «صلح الحديبية»، وجدت نفسها مفلسة بفريقها التفاوضي،
فلجأت إلى أحد حلفائها وأدخلته في فريق التفاوض؛ ما يكشف مدى التدهور السياسي الذي
وصلت إليه، كل ذلك جاء بنفس طويل من التخطيط والمكابدة من قبل النبي صلى الله عليه
وسلم.
فحياة النبي صلى الله عليه وسلم حافلة بالدروس والعبر، وهي معين لا ينضب من
استقاء الدروس بكل زواياها؛ حيث لم تكن حياته صلى الله عليه وسلم كما أُشْربته
نفوسنا، هي مجرد عصا موسى التي تحلّ كل المعضلات وتبتلع كل الأزمات، لتكشف لنا أن الإعداد
والبصيرة والتخطيط ركن ركين وحصن حصين، لكل من يسير على دربه من القيادة الواعية،
التي تستشرف المستقبل، ولا تنتظر المُخلّص لينهي أزماتها.
_____________________
(1) السهيلي: الروض الأُنُف.
(2) سيرة ابن هشام.
(3) ابن القيم: زاد المعاد في سيرة خير العباد.
(4) الصالحي: سبل الهدى والرشاد.