«الطوفان» كمرحلة مفصلية

كان يوماً مشهوداً فرحت به مئات الملايين
من قلوب المؤمنين وأغاظ الله به قلوب كثير من الكفار والمنافقين، وأعاد لنا ذلك اليوم
أيام مجد غابرة استذكرناها من خلال تضحيات رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، متقدمين
بثبات وشجاعة يقل نظيرها، ويقتحمون الأسلاك الشائكة والجدران الأسمنتية العالية التي
ظنها اليهود حصينة منيعة، لكنها لم تغن عنهم من الله شيئاً، وكان رجال المقاومة الفلسطينية
قد أتوهم من حيث لم يحتسبوا مندفعين بإيمانهم بالله سبحانه، قد باعوا أنفسهم له متسلحين
بقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ
اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ) (التوبة: 111).
كان ذلك في يوم السابع من أكتوبر المجيد،
يوم انطلاق «طوفان الأقصى»، وما بعد الطوفان حتماً ليس كما قبله، سواء تعلق الأمر بالكيان
الصهيوني والأزمات المتلاحقة به داخلياً وخارجياً، أو تعلق بالشعوب الإسلامية وحالة
اليقظة والوعي الذي عم مختلف أرجاء العالم تجاه قضيتنا المحورية قضية فلسطين ومسرى
رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام.
وتمثل «طوفان الأقصى» مرحلة فاصلة في المشهد
السياسي والديموغرافي للمنطقة برمتها، فالزلزال الذي أحدثته المعركة ألقى بظلاله على
المنطقة، وفي المقدمة من ذلك سكان المدن والمناطق في فلسطين المحتلة من الوافدين إليها
الدخيلين عليها والمستوطنين فيها، إذ زاد معدل الهجرة العكسية، ووجدوا أنفسهم يبحثون
عن وطن يلجؤون إليه بعد أن فقدوا عوامل الأمان والاستقرار وضربت المقاومة الفلسطينية
لديهم إرادة البقاء وباتوا على يقين تام بأن كيانهم الغاصب زائل لا محالة، وهذا بحد
ذاته يغيّر المعادلة، ويجعل تحرير فلسطين أكثر قرباً وقاب قوسين أو أدنى بحول الله
وقوته.
وبالرغم من كثافة القصف وهول المجازر وجرائم
الإبادة التي ارتكبها الكيان الصهيوني عقب السابع من أكتوبر في محاولة منه لاستعاده
هيبة الردع التي سقطت تحت أقدام مجاهدي المقاومة الفلسطينية، فإنه لم يستطع النجاح
في ذلك، وها نحن نتجاوز عاماً ونصف عام وما زالت غزة و«حماس» وغيرها من فصائل المقاومة
تمرغ أنوف جيشه في التراب، وتسطر أروع ملاحم الصمود والفداء والاستبسال وتكبده خسائر
متتالية واضعة وراسمة فصلاً جديداً في مسار الصراع مع الكيان يبدأ به عهد هزائمه، وزوال
أسطورة الجيش الذي لا يهزم، وظهر هذا جلياً من خلال رضوخه واستسلامه لشروط المقاومة
في صفقات تبادل الأسرى، ليُكتب بذلك بداية النهاية لهذا الكيان الغريب والدخيل على
أرض وتراب فلسطين ومقدساتها.
ويضاف إلى ذلك ما أحدثته «طوفان الأقصى» من
صحوة وعي حقيقية بحقيقة الصراع مع الكيان الصهيوني، ومن خلفه الأنظمة والحكومات التي
تدعمه أو تتماهى معه، وهي صحوة شاملة تنشئ جيلاً إسلامياً يدرك كم أن فلسطين وقضيتها
ومقدساتها مهمة للمسلمين عموماً، والعرب منهم على وجه الخصوص، وتؤسس لمرحلة وعهد جديد
أبرز عناوينه رفض التطبيع والتهادن مع الكيان «الإسرائيلي» بكافة أشكاله وأنواعه.