مستقبل سورية بعد رفع العقوبات الأمريكية

مصعب الناصر

23 يونيو 2025

288

مرّت أكثر من 6 أشهر على انتصار الثورة السورية المباركة، بالسقوط التاريخي المدوي لنظام الأسد، واستعادة الشعب السوري حريته وكرامته واستقلاله، التي دفع ضريبة باهظة لها خلال 14 عاماً، بل أكثر من 4 عقود، جثم خلالها هذا النظام المجرم على صدور السوريين.

ورغم أن الزائر لدمشق، وأخواتها من المدن، ما زال يستشعر بعض جوانب مأساتها التي امتدت لعقود، التي يلحظها بوضوح في جدران أبنيتها الكالحة، وهوائها المحمّل برائحة العوادم الناتجة عن مولدات الكهرباء، فإن الواقع الجديد الذي بات ينعم فيه السوريون الآن بالخلاص من نظام الطاغية المخلوع وداعميه، بات يهوّن عليهم كلّ تلك الصعوبات، ويبشرّهم بمستقبل مشرق آت.

في أحاديث السوريين اليومية، سواء من كان منهم في الداخل أو في الخارج، يظهر حجم الآمال الكبيرة المعقودة على الحكومة السورية الانتقالية الجديدة، المدفوعة برصيد شعبي كبير، أحرزته بقيادتها منجز التحرر، يتلخص بالمضيّ بهذه الدولة الوليدة الناهضة من تحت الركام والخراب والدمار، إلى أفق جديد مليء بالفرص الواعدة والمستقبل.

أهم التحديات بناء سورية إنساناً وعمراناً وإحلال الأمن وإقامة العدل والوصول إلى مجتمع السلم الأهلي

إلا أن هذا المستقبل المأمول تقف دونه عوائق وتحديات بالغة الجدية والأهمية، تمسّ عصب حياة السوريين، والمبادئ والتطلعات التي قامت لأجلها ثورتهم العظيمة.

ولعل هذه التحديات، تدور حول أصول جوهرية؛ محورها إعادة بناء سورية؛ إنساناً، وعمراناً، وعلى رأس ذلك وفي مقدمته، إقامة وإحلال الأمن في ربوع البلاد، ووسيلته الفذة العدل (ومنه العدالة الانتقالية)، وغايته الوصول إلى مجتمع السلم الأهلي، يشعر الفرد فيه بالأمان والانتماء، ليصبح قادراً على العطاء، مشاركاً في البناء.

وبموازاة ذلك، يأتي تأمين حياة كريمة للإنسان السوري، لائقة بتضحياته ومعاناته التاريخية، من ناحية تحسين سائر التفاصيل المتعلقة بمعاشه اليومي، من مأكل ومشرب وملبس وفرص عمل، تليق بما دفعه من أثمان باهظة، وهو يقف وحده في وجه الحرب المسعورة التي أدارها النظام وحلفاؤه، التي امتدت لتشمل كافة نواحي الحياة، وبات من حقه الآن أن يحصد ثمار ثورته المباركة، عاجلاً وسريعاً.

العقوبات على سورية.. سياق زمني

بات الملف الاقتصادي أخيراً حاضراً وبقوة، بل طاغياً على الملفات الأخرى، في مجمل التحركات المتعلقة بالشأن السوري، على مدى الأشهر الماضية، إلى أن تكلل أخيراً برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على البلاد، من قبل الولايات المتحدة الأمريكية خاصة، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي.

لقد أنهكت سنوات القمع الاقتصاد السوري واستنزفت مقدراته، إلى حدّ قدّرت فيه الأمم المتحدة في تقرير أصدرته، في فبراير الماضي، مجمل خسائر الناتج الإجمالي المحلي بنحو 800 مليار دولار، يعود جزء مهم منها إلى نظام العقوبات المتعدد.

.. وتأمين حياة كريمة لائقة بتضحيات السوريين من ناحية تحسين سائر التفاصيل المتعلقة بمعاشهم اليومي

ورغم أن لسورية تاريخاً طويلاً مع العقوبات الأمريكية بدأ منذ عام 1979م، عندما أدرجت على أول قائمة استحدثتها الولايات المتحدة لما وصفته بـ«الدول الراعية للإرهاب»، فإن المنعطف الحقيقي جاء بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011م، مع ازدياد وتيرة القمع الحكومي لها، لتبلغ ذروتها مع فرض عقوبات أكثر شمولاً وتشدداً استهدفت قطاعات حيوية، مثل النفط والغاز والطيران، والقطاع المصرفي بما فيه المصرف المركزي، فضلاً عن فرض قيود على تصدير سلع أساسية وتكنولوجية إلى سورية.

وأخيراً، وبعد طول ترقب وانتظار، ومساعٍ من قبل دول شقيقة وصديقة، رفعت (أو خففت) الولايات المتحدة، في مايو 2025م، العقوبات الاقتصادية عن البلاد، فيما وصف بأنه تحوّل كبير للسياسة الأمريكية، بعد إسقاط بشار الأسد؛ ما يفسح المجال نظرياً أمام استثمارات جديدة، ودفع عجلة التعافي الاقتصادي، تمهيداً لبدء مرحلة الإعمار، الذي تقدّر الأمم المتحدة كلفته بأكثر من 400 مليار دولار.

لكنه وعلى الرغم من أن رفع العقوبات قد نال ترحيباً وإشادة كبيرين، وسط آمال وطموحات بأن تنعكس تلك القرارات على الواقع السوري بأسرع وقت، فإنه لن يكون من الممكن لمس الآثار الاقتصادية الحقيقية لرفع العقوبات قبل أشهر، وسط جملة من المحاذير والتحديات التي يجب ملاحظتها وأخذها بالحسبان.

«رفع» أم «تخفيف»؟!.. دلالة المصطلحات

ومن تلك التحديات بعض الغموض الذي شاب حديث المسؤولين الأمريكيين، فيما يخص القرار، الذي لم يبدّده نص قرار الخزانة الأمريكية، استخدم عبارات توحي بالطبيعة المؤقتة أو الجزئية أو المتدرّجة لهذا الرفع.

.. وتوحيد البلاد تحت سلطة الحكومة المركزية ومنها مناطق غنية بالثروات الطبيعية والحيوانية

إذ نلحظ في نص قرار وزارة الخزانة الأمريكية المتعلق برفع العقوبات، تحت وصف «رخصة» أن الولايات المتحدة أعلنت «إعفاءً إضافياً» من العقوبات على «بعض الأنشطة» في سورية «خلال الأشهر الستة المقبلة» لتسهيل الوصول إلى الخدمات الأساسية.

كما جاء في نص القرار أن وزارة الخارجية تصدر بالتزامن مع ذلك «إعفاءً» بموجب قانون قيصر لحماية المدنيين في سورية؛ ما سيتيح للشركاء الأجانب والحلفاء والمنطقة فتح الباب واسعاً أمام الإمكانات السورية.

وجاء أيضاً في القرار أن هذه الخطوة «ليست سوى نقطة في بحر جهود أوسع نطاقاً تبذلها الحكومة الأمريكية لإزالة كامل هيكلية العقوبات المفروضة على سورية بفعل انتهاكات نظام بشار الأسد»؛ ما يعني ضمناً أن الطريق إلى الرفع الكامل للعقوبات لا يزال طويلاً.

ومن الأخطار والمحاذير ثنائية الفعل ورد الفعل؛ أي رفع العقوبات مقابل الأثمان والمطالب المتوقعة، فبالعودة إلى خطاب المسؤولين الأمريكيين، وعلى رأسهم الرئيس دونالد ترمب، نجد كثيراً من الإشارات إلى أن مطالب يتعين على سورية تنفيذها، فما الأمور أو التعهدات المطلوب من سورية تقديمها، أو التي قدمتها بالفعل؟!

وفق وزارة الخزانة الأمريكية، فإنّ رفع العقوبات مشروط بعدم توفير الحكومة الجديدة ملاذاً آمناً لمنظمات «إرهابية» وضمانها الأمن لأقليات دينية وإثنية، كما يتحدث المسؤولون الغربيون الآخرون أيضاً عن أهمية تشكيل حكومة تمثل جميع الأطياف السورية، وتحمي الأقليات.

توحيد البلاد ومواجهة أخطار التقسيم

ومن التحديات المهمة التي تواجه الحكومة السورية أيضاً، تحدّي توحيد البلاد تحت سلطتها المركزية، ومنها مناطق غنية بالثروة الطبيعية والحيوانية، كتلك التي تقع تحت سيطرة تنظيمات انفصالية، تسيطر على مساحات واسعة شمالي وشرقي البلاد، تضم أبرز حقول النفط والغاز التي تحتاج السلطة الجديدة في دمشق إلى مواردها.

رفع العقوبات الأمريكية مشروط بعدم توفير الحكومة الجديدة ملاذاً آمناً لمنظمات «إرهابية» وضمانها الأمن للأقليات

وتضمن اتفاق وقعه الرئيس أحمد الشرع مع قائد ما تسمى «قوات سورية الديمقراطية» مظلوم عبدي، في 11 مارس 2025م، بنوداً عدة، نصّ أبرزها على دمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سورية ضمن إدارة الدولة

 السورية بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز، ويُفترض استكمال تطبيقه بحلول نهاية العام.

لكن يبدو أن هناك صعوبات جمة لا تزال تواجه البلاد في هذه المجال، مع إصرار التنظيمات الانفصالية على مطلب التعددية اللامركزية في إدارة النظام السياسي في سورية، فيما تردّ دمشق بتأكيد رفضها محاولات فرض واقع تقسيمي في البلاد.

ويتوقع محللون وخبراء تزايد وتيرة إعادة إعمار البنية التحتية، كالطرق والمستشفيات والمدارس، لكن قطاعات أخرى مهمة، أبرزها الطاقة والقطاع المصرفي تتطلّب استثمارات كبرى ووقتاً أطول بكثير لتتحقق فعلياً، في عملية قد تستغرق بضعة أشهر أخرى.

فالسلطات الجديدة التي تأمل جذب الاستثمارات في مختلف القطاعات، خاصة الطاقة، تواجه مشكلة حقيقة هي حجم الأضرار البالغة التي لحقت بالبنية التحتية للكهرباء، حيث وصل انقطاع التيار الكهربائي لأكثر من 20 ساعة يومياً في كثير من المناطق.

وأصبح ثلثا الشبكة إمّا مدمراً بالكامل أو بحاجة إلى إصلاحات كبيرة، وقدّرت وزارة الطاقة فاتورة الإصلاح حالياً بما يصل إلى 5.5 مليارات دولار، وهي أموال لا تملكها الدولة؛ ما يعني أن هناك حاجة للبحث عن استثمار خاص أو مانحين آخرين.

البيئة الحاضنة الجاذبة وتحدي القيم الموروثة

ونتيجة غياب بيئة استثمار مشجعة تجذب المستثمرين ورؤوس الأموال، والضرر البالغ الذي أصاب مرافق وبنى تحتية خدمية، يرجّح خبراء اقتصاديون أن رفع العقوبات وحده لن يكفي لدفع مسار التعافي قدماً، الذي سيحتاج وقتاً طويلاً.

وفي مواجهة ذلك، يتوجب على السلطات تهيئة بنية حاضنة للاستثمار، وشفافية في توقيع عقود استثمارية ضخمة، في حين لم تصدر بعد أي قوانين استثمار جديدة، ولم تعلن أي إصلاحات اقتصادية، بعد عقود نخر فيها الفساد المؤسسات، وساهم في تدهور بيئة الأعمال.

ولا تزال البلاد تعاني أيضاً من الآثار العميقة لعملية التخريب والإفساد الأخلاقي والقيمي لكيان الإنسان والمجتمع السوري، حيث سادت قيم الفساد والرشوة والمحسوبية على مدى عقود، فأصبحت سورية في عهد الأسد في ذيل المؤشرات الدولية فيما يخص الشفافية، ومن دول العالم الأكثر فساداً.

وقد عزلت سنوات القمع الطويلة اقتصاد البلاد ونظامها المصرفي عن العالم، وأعاقت الحركة التجارية، وتدفق الأموال وتحويلها بين الداخل والخارج، حيث باتت عملية تحويل الأموال بطريقة رسمية إلى الخارج مهمة مستحيلة، تحت طائلة عقوبات غربية ضد كل من يتعامل مع مؤسسات وكيانات مالية سورية.

وفي سبيل معالجة ذلك، تتطلب عملية إعادة ربط النظام المصرفي السوري بالقطاع المصرفي العالمي اتخاذ تدابير على مستويات عدة.

ويأمل مواطنون أن يضع رفع العقوبات حداً لتحويل الأموال عبر السوق السوداء، لتجنب اجتزاء نحو 30% من قيمة المبلغ المحوّل، وتصبح عملية التحويل «نقرة زر» على ما هو الحال عليه في أنحاء العالم.

على السلطات تهيئة بنية حاضنة للاستثمار وشفافية في توقيع العقود وإصدار قوانين استثمار جديدة

وفي سياق متصل، تعاني البلاد أيضاً من قصور بالغ في البنية التحتية الرقمية، جعل قدرات الاتصال بالإنترنت فيها من الأسوأ في العالم، ويضطر الكثير من المستخدمين إلى الاعتماد على بيانات الهاتف المحمول باهظة الثمن، بدلاً من الاتصال اللاسلكي لإنجاز المهام الأساسية عبر الإنترنت.

ومن التحديات الصعبة التي تنتظر الحكومة، عودة أكثر من مليوني سوري من لاجئين ونازحين إلى مناطقهم الأصلية، من داخل سورية وخارجها، لا سيما من الدول المجاورة مثل لبنان والأردن وتركيا، وقدّرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، في يونيو 2025م، أنّ أكثر من 500 ألف سوري عادوا من الخارج، في حين لا يزال نحو 13.5 مليون سوري في عداد اللاجئين أو النازحين.

وتعترض عودة أعداد كبيرة إضافية من هؤلاء مجموعة عوائق، منها حجم الدمار وترهل البنى التحتية أو عدم توفرها، إضافة إلى نقص الفرص الاقتصادية والخدمات الأساسية التي تحول دون عودة، بحسب تقديرات المنظمة الدولية للهجرة.

ومنذ الإطاحة ببشار الأسد، شنّ الكيان الصهيوني مئات الضربات على مواقع عسكرية في سورية، بحجة منع وقوع الترسانة العسكرية في أيدي السلطات الجديدة، كما توغلت قواتها داخل المنطقة العازلة المنزوعة السلاح في الجولان، والواقعة على أطراف الجزء الذي تحتله من الهضبة السورية، وتتقدم قواتها بين الحين والآخر إلى مناطق في عمق الجنوب السوري.

كما انغمس الكيان الصهيوني أخيراً في صراع متصاعد مع إيران، يخشى من تأججه وامتداده في أي وقت إلى مناطق أخرى في الإقليم المضطرب أساساً؛ ما يهدد فرص الانتعاش المأمول في المنطقة عموماً، وفي سورية بشكل خاص.

آثار إيجابية.. استثمارات ومشاريع ودعم

وعند الحديث عن الفرص والتوقعات المتفائلة، نجد على سبيل المثال أنه عقب ساعات فقط من إعلان ترمب عزمه رفع العقوبات، سجلت أسعار صرف الليرة السورية تحسناً ملحوظاً، وإن كان هذا التحسن مؤقتاً ويندرج ضمن إطار الأثر النفسي والسياسي لرفع العقوبات.

وبحسب محللين وخبراء اقتصاديين، فإن القطاع المصرفي سيكون الأكثر تأثراً برفع العقوبات، التي من شأنها أيضاً فتح الباب أمام الاستثمار الأجنبي، كما يمنح أيضاً دولاً داعمة في المنطقة، مثل السعودية وقطر وتركيا، ضوءاً أخضر لبدء ضخ الأموال وتقديم الدعم المالي.

محللون: القطاع المصرفي الأكثر تأثراً برفع العقوبات وفتح الاستثمار الأجنبي وضخ الأموال وتقديم الدعم المالي

وقد أكد وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، خلال زيارته الأخيرة لدمشق، أن بلاده ستكون في مقدمة الدول التي تقف الى جانب سورية في مسيرة إعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي، مشيراً الى أن الرياض وقطر ستقدمان دعماً مالياً للقطاع العام، كما سدّدت السعودية مع قطر الديون المستحقة على سورية لصالح البنك الدولي والبالغة نحو 15 مليون دولار.

كما برزت في هذا السياق مذكرة التفاهم في مجال الطاقة التي وُقّعت أواخر مايو الماضي مع ائتلاف من 4 شركات خارجية، بينها قطرية، بقيمة 7 مليارات دولار، التي عُدّت من أكبر المشاريع الاستثمارية المعلنة.

وختاماً، يمكن القول: إنه على الرغم من وجود تحديات وعقبات عدة، فإن السوريين متفائلون كثيراً بالأثر الإيجابي الذي يمكن أن يحدثه رفع العقوبات على اقتصاد بلادهم ومعيشتهم، ورغم أن التعافي التام سيستغرق لا شك سنوات طويلة، فإن رفع العقوبات يمثل خطوة أولى في هذا الطريق، ويوفر فرصاً عديدة منتظرة.

لكن الآمال الحقيقية المعقودة تستمد -بعد الله عز وجل- من الإنسان السوري، هذا الإنسان الذي كما قلنا، صمد صمود الجبال الراسيات، في وجه أعتى آلة إجرام في العصر الحديث، على مدى عقود، وكما انتزع حريته وكرامته من بين أنياب تلك القوى المتوحشة، فإنه قادر، بإذن الله تعالى، بعزيمته وإصراره، على المضيّ قدماً في تحقيق آماله وتطلعاته بمستقبل زاهر مشرق.

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

جميع الأعداد

ملفات خاصة

مدونة