الإسلام وصناعة إنسان الحضارة

الإنسان الحضاري هو ذاك الإنسان الذي يولد في بيئة خاملة فيبعث فيها الحياة، ويضع فيها الغراس المثمرة، لا يتعلل بالظروف القاهرة في القضاء على الأماني والأحلام، بل يقهر الظروف ويتغلب عليها، وعوضاً عن تخذيلها له، يطوعها هو ويجعلها في خدمة أهدافه ومشروعاته وأمانيه المشروعة.

تعاني الحالة الشبابية المعاصرة في كثير من بلدان العالم الإسلامي من حالة جفاف حضاري لافت، وتستمكن في نفوس بعضهم بواعث الوهن، ثم عزوف عن التفكير في الخروج من حالة الانهزام إلى التماهي معها، والتعايش وفق معطياتها.

أسباب ومسببات

ترجع الحالة الواهنة للشباب في معظمها إلى دخول الأمة في منعطف الوهن، وسؤال الشباب الدائم: أين النص؟ وأين التمكين في الأرض؟ حيث ما فتئوا يسمعون من خطباء الجمعة ووعاظ الأشرطة عن النصر وحتميته وضرورته وقربه.

فالشباب يرى حالة انهزام لائحة، ويرى تخلفاً يشمل كل مناحي الحياة، ثم يرى تفوقاً لافتاً لغير المسلمين في كافة المجالات، وعوضاً عن سؤال: كيف نجتاز هذه المرحلة؟ يبرز سؤال لماذا نحن هنا؟

تؤدي مقررات التعليم ومناهجه وأهدافه دوراً كبيراً في تشكيل البيئة الشجاعة، والبيئة الواهنة على السواء في نفوس المتلقين لهذه المقررات.

التواصل الاجتماعي وجنايته!

تقوم وسائل التواصل الاجتماعي بدور خطير في تشكيل الوعي، وتوجيه دفته، فالعالم المفتوح على مصراعيه يعد عاملاً مهماً في عملية الوعي سلباً وإيجاباً، فساعات طويلة يقضيها الشباب أمام وسائل التواصل الاجتماعي، وهي تعرف جيداً كيف تسيل لعاب المتابعين لمزيد من المتابعة، وكيف تجعلهم يغادرونها وهم في لهفة من العودة إليها.

تزحف وسائل التواصل على قضايا تسحب رصيداً هائلاً من جهد المتابعين، وتقسم الناس إلى شركاء متشاكسين، وفي كل مناسبة يمكن توظيفها في البناء الحضاري، تكون ذات المناسبة فرصة للتفتيت وإيجاد الخلاف وتسعير الحرب الفكرية والمذهبية.

يتصدر وسائل التواصل اليوم أفراد ومؤسسات تمرر قضايا لا يجوز الانشغال بها، وقد جربت الأمة زمناً طويلاً كيف أن انشغالها بتوافه المسائل أقعدها في ميدان الحضارة.

فحين انشغلت الأمة ببحث مسألة «خَلْق القرآن» خلت كتب التاريخ من الحديث عن فتح فتحه المسلمون، ولا عن ثغر دعموا القائمين عليه، وقت اشتعال المسألة والانشغال بها، ذلك أن الزائف من المسائل والقضايا مضيعة للمقاصد الكبرى للأمة، وصارف لها عنها، ومضيع جهدها فيما لا طائل منه.

مسائل وقضايا زائفة

كما أشرنا، فإن قضايا زائفة تزحف على حياتنا، بعضها مصنوع وبعضها تنجرف له الجماهير غير واعية، فحين يبدأ الاستعداد لرمضان يبدأ اللغط حول رؤية الهلال، وهل الحسابات الفلكية كافية، أم غير كافية؟! وكل من رأى في المسألة رأياً رآه حقاً لا شكَّ فيه، ثم يبدأ تضليل الآخر واتهامه بالعدول عن الأدلة، غير منتبه أن الخلاف في ذلك من خلاف التنوع، الذي لا يجوز لأي واحد من الفريقين البغي على الآخر فيه!

لقد افترض العلماء وقوع خطأ في يوم عرفة، فوقفه المسلمون يوم العاشر بدل التاسع، وجاء قوم للإمام يشهدون بالخطأ، قال ابن الهمام: لا يسمع منهم الإمام؛ لأن سماعها يشهرها بين عامة الناس من أهل الموقف؛ فيكثر القيل والقال فيها وتثور الفتنة، وتتكدر قلوب المسلمين بالشك في صحة حجهم بعد طول عنائهم، فإذا جاؤوا ليشهدوا يقول لهم: انصرفوا لا نسمع هذه الشهادة قد تم حج الناس(1).

بل إن محمد بن الحسن لم يجز لمن انفرد برؤية أن يخالف الإمام فيها مهما كانت درجة يقينه فيها، بل يقف متى وقف إمام الحج.

وهكذا عوضاً أن نبحث سبل التوافق في القضايا الثابتة، بتنا نختلف حول القضايا المتغيرة والنوازل التي يسوغ فيها الخلاف.

أما الخلاف حول زكاة الفطر، رغم أنه خلاف سائغ، فإن أقواماً جعلوا الخلاف فيها معركة يحمى وطيسها في العشر الأواخر من رمضان، وعوضاً عن الانشغال بالعبادة وإصابة ليلة القدر تثور الثائرة حول الإجزاء في زكاة الفطر!

وهكذا ترمي موجات التزييف بمسائل تجعل الإنسان ينتقل من صناعة الحضارة إلى صناعة الزيف، ومن تسخير قوانين الكون إلى تبييض الحواشي في الفقه، ومن الانشغال بجعل الفنون خادمة للحضارة إلى التأليف في أحكام المعازف، وعقد الولاء والبراء على القول فيها بالحل والحرمة.

ومن التفتيش في مناهج العلماء في صناعة التأليف وتوليد العلوم إلى النظر في مثالبهم، وتنقيصهم وتتبع أقوالهم، والحكم عليها بالقبول أو الزيف، ومن ثم الحكم على قائلها.

في صناعة إنسان الحضارة

في الحديث المشهور: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: «ما أعددت لها»(2)، وهكذا وجه الرسول صلى الله عليه وسلم نظر السائل من السؤال عن زمن الحدث، إلى العمل لملاقاة الحدث، فإن اليقين بقيام الساعة لا شك، فيبقى الانشغال بالإعداد لهذا اليقين هو المهم.

قال ابن رجب: أعرض عن الجواب عن الساعة إلى ذكر الاستعداد لها؛ لأنه هو المأمور به وهو الذي يعني السائل وغيره وينبغي الاهتمام به(3)، وقال العيني: إنما يهمك أن تهتم بأهبتها وتعتني بما ينفعك عند قيامها من الأعمال الصالحة(4).

وفي سبيل التصدي لصناعة إنسان الحضارة، حين أشعل اليهودي شأس بن قيس فتيلاً، لما رأى اجتماع أهل المدينة ووحدتهم فقال: «لقد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار»، فأمر فتى شابّا من يهود كان معه فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار التي كانت ذماً وتنقيصاً من كل فريق لصاحبه، وتواعد الفريقان على مقتلة على عصبية كانت بينهم في الجاهلية، واستطاع اليهودي أن يشعل فتيل النار بين من كانت الأخوة بينهم هي أهم سمة حضارية جمعت بينهم

وفي سبيل وأد الفتنة وإطفاء شرارتها، ونزع فتيل الشر الذي زرعه هذا اليهودي، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال: «يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بينكم، فترجعون إلى ما كنتم عليه كفّارا؟!».

فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوّهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّهم: عدوّ الله شأس بن قيس(5).

إذاً، كل إنسان يعتصم بدعوى من دعاوى الجاهلية التي تتخذ الجنس أو اللون أو الحسب منطلقاً للتمايز هو إنسان خرج من حالة الشهود الحضاري إلى حالة الغثاء.

فإنسان الحضارة هو الذي تربى في كنف قوله تعالى: (فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) (آل عمران: 103)، وهو الذي يصطف في ظلال قوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13).

إنسان الحضارة هو الذي يتمثل الآخرة في سعيه، ويتغياها في منشطه ومكرهه.





___________________

(1) فتح القدير (3/ 169).

(2) متفق عليه.

(3) فتح الباري (1/ 197).

(4) عمدة القاري (22/ 196).

(5) سبل الهدى والرشاد (3/ 398).

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة