الاستدلال باللغة في أبواب العقائد عند السلف.. الإمام المروزي نموذجاً

محمد الحداد

22 يونيو 2025

93

أعظم ما أمر اللّٰه به عباده الإيمان، وقد أنزله في نصوص الوحي على تفصيل؛ لكي يعتنقوه ويترجمونه إلى عبادة عملية، وقد انحرف عن هذا المسلك فئام من الناس، بين مناقض له ومضاد ومخالف، فحاججهم جميعًا أهلُ الحق، واعتمدوا في حجاجهم طريقًا لاحبًا مستقيمًا، رأسه كتاب اللّٰه تعالى وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأعمدته ما فيهما من علوم يتقدمها لغة العرب، قال اللّٰه تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2).

وقد اعتمد صدر هذه الأمة السلفُ الصالح مسلك الاحتجاج بلغة العرب في الرد على الزائغين في أبواب العقائد، وقد روِي عنهم كلام كثير في ضرر من تكلم في دين اللّٰه مع إهمال هذا الأصل الأصيل، ومثال ذلك ما ذكره أبو سعيد الدارمي في كتابيه «النقض» و«الرد على الجهمية»، والطبري في «جامع البيان»، وابن قتيبة في «الاختلاف في اللفظ»، وأبي عبيد القاسم بن سلام في «الإيمان ومعالمه وسننه واستكماله ودرجاته».. وغيرهم الكثير، ولعله لو وُجد متتبع لهذا المسلك في مصنفات السلف وحدهم جمعًا ودراسةً فضلًا عمن تلاهم يظفر بنصوص طوال لا يكفيها سفر ضخم.

ومن هؤلاء الإمام الجليل محمد بن نصر المَرْوَزِي (ت 294هـ) في كتابه «تعظيم قدر الصلاة»، وهو من أفراد الأسفار العقدية التي ليس لها نظير، وذلك لاعتبار مؤلفه وزمن تأليفه والموضوع المؤلَّف فيه، وقد احتج في هذا الكتاب بلغة العرب في نقض المقالات البدعية في أكثر من 30 موضعًا، وهذه ثلاثة منها مع الإشارة على موضع الشاهد فيه.

الاستدلال باللغة على صحة نفي الإيمان -باعتبار كماله- عمن حاز أصله

قال: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُقَالُ: لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَاسْمُ الْإِيمَانِ لَازِمٌ لَهُ؟، قِيلَ: هَذَا كَلَامُ الْعَرَبِ الْمُسْتَفِيضُ عَنْهَا غَيْرُ الْمُسْتَنْكَرِ عِنْدَهَا قَدْ وَجَدْنَاهُ فِي الْآثَارِ وَغَيْرِهَا، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي لَمْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ: «ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ»، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ، وَقَدْ رَآهُ يُصَلِّيَهَا وَلَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُكْمِلْهَا جَعَلَهُ غَيْرَ مُصَلٍّ، وَكَذَلِكَ حِينَ سُئِلَ عَنْ مَنْ صَامَ الدَّهْرَ؟ فَقَالَ: «مَا صَامَ وَلَا أَفْطَرَ» فَجَعَلَهُ غَيْرَ صَائِمٍ وَقَدْ زَادَ عَلَى صِيَامِ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَخْطَأَ بِهِ مَوْضِعَهُ جَعَلَهُ غَيْرَ صَائِمٍ.

قَالَ: وَكَذَلِكَ كَلَامُ الْعَرَبِ أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ لِلْصَانِعِ إِذَا كَانَ غَيْرَ حَاذِقٍ بِعَمَلِهِ وَلَا مُتْقِنٍ لَهُ فُلَانٌ لَيْسَ بِصَانِعٍ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُعَالِجُ ذَلِكَ الْعِلَاجَ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ غَيْرَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا نَفَوْا عَنْهُ تَجْوِيدَ الْعَمَلِ لَا الصِّنَاعَةَ بِرُمَّتِهَا، وَكَذَلِكَ يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا غَيْرَ إِحْكَامٍ أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ لَمْ يَقُمْ فِيهِ بِحُجَّتِهِ مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، وَلَوْ سُئِلُوا عَنْهُ لَكَانَ تَارِكًا لِلْعَمَلِ أَوِ الْكَلَامِ؟ لَقَالُوا: لَا وَلَكِنَّهُ تَرَكَ مَوْضِعَ الْإِصَابَةِ فِيهِ، فَكَثُرَ هَذَا فِي أَلْفَاظِهِمْ حَتَّى تَكَلَّمُوا بِهَذِهِ الْمَعَانِي فِيمَا هُوَ أَعْجَبُ مِمَّا ذَكَرْنَا.

الاستدلال باللغة على دخول الأعمال في مسمى الإيمان

قَالَ: وَمِنْ أَعْظَمِ حُجَجِ الْمُرْجِئَةِ الَّتِي يَقُولُونَ بِهَا عِنْدَ أَنْفُسِهِمُ: اللُّغَةُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ إِلَّا بِالتَّصْدِيقِ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ التَّصْدِيقَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقَلْبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ.

وَقَدْ وَجَدْنَا الْعَرَبَ فِي لُغَتِهَا تُسَمِّي كُلَّ عَمَلٍ حَقَّقَتْ بِهِ عَمَلَ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ تَصْدِيقًا فَيَقُولُ الْقَائِلُ: فُلَانٌ يَصْدُقُ فِعْلُهُ قَوْلَهُ، يَعْنُونَ يُحَقِّقُ قَوْلَهُ بِفِعْلِهِ، وَيَصْدُقُ سَرِيرَتُهُ عَلَانِيَتَهُ، وَفُلَانٌ يَكْذِبُ فِعْلُهُ قَوْلَهُ.

وَقَالَ الشَّاعِرُ:

صَدِّقِ الْقَوْلَ بِالْفِعَالِ فَإِنِّي      لَسْتُ أَرْضَى بِوَصْفِ قَالَ وَقِيلَ

وَقَالَ كُثَيِّرٌ وَهُوَ يَمْدَحُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ:

وُلِّيتَ فَلَمْ تَشْتُمْ عَلِيًّا وَلَمْ تُخِفْ         بَرِيئًا فَأَمْسَى سَاخِطًا كُلُّ مُجْرِمٍ

وَقُلْتَ فَصَدَّقْتَ الَّذِي قُلْتَ بِالَّذِي      فَعَلْتَ فَأَمْسَى رَاضِيًا كُلُّ مُسْلِمٍ

وَيَقُولُ الْعَرَبُ إِذَا حَمَلَ الرَّجُلُ عَلَى الْقَوْمِ فِي الْحَرْبِ فَلَمْ يَرْجِعْ قَالُوا: صَدَقَ الْحَمْلَةَ أَيْ حَقَّقَهَا أَيْ لَمْ يَقْتَصِرْ دُونَ أَنْ يَبْلَى، وَإِذَا رَجَعَ قِيلَ كَذَبَ الْحَمْلَةَ.

الاستدلال باللغة في دخول أعمال القلب في الإيمان والرد على المرجئة المدخلين أعمال القلوب فيه مع حصره على الإقرار.

قَالَ: وَأَهْلُ اللُّغَةِ لَا يُسَمُّونَ الْحُبَّ تَصْدِيقًا وَلَا إِيمَانًا، وَلَا الْبُغْضَ كُفْرًا، لِأَنَّ الْحُبَّ عَنِ التَّصْدِيقِ يَكُونُ، وَالْبُغْضَ عَنِ الْإِنْكَارِ وَالْجَحْدِ، فَقَدْ أَضَفْتُمْ إِلَى الْإِيمَانِ مَا أَوْجَبَهُ الْإِيمَانُ وَكَانَ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ كُلَّمَا أَوْجَبَهُ الْإِيمَانُ وَكَانَ عَنْهُ فَهُوَ إِيمَانٌ، لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا أَصْدَرْتَ اللُّغَةَ بِالْعِبَارَةِ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا مُوجِبٌ لِلْآخَرِ عَرَفْتَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ مُتَقَدِّمَةٌ لِلْحُبِّ بِالْبُغْضِ.

وقال في موضع آخر: وَلِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ وَالْإِقْرَارَ فِعْلَانِ يَزُولُ أَحَدُهُمَا وَيَثْبُتُ الْآخَرُ، وَفِعْلُ الْقَلْبِ يُسَمَّى تَصْدِيقًا فِي اللُّغَةِ إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ لَهُ مُعْتَقِدًا لِلْمَعْرِفَةِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْقَلْبِ خَاضِعًا مُذْعِنًا، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ مِنْهُ إِيمَانًا وَلَوْ أَقَرَّ بِلِسَانِهِ إِيمَاءً وَلَمْ يُعْلَمْ مَا فِي قَلْبِهِ يُسَمَّى مُؤْمِنًا وَيُسَمَّى ذَلِكَ الْإِقْرَارُ مِنْهُ إِيمَانًا، وَحُكِمَ لَهُ بِحُكْمِ الْإِيمَانِ.

الرابط المختصر :

كلمات دلالية

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة