المحتوى الهادف في مواجهة أمواج اللهو الإلكتروني

محمد العبدالله

07 سبتمبر 2025

133

في زحمة الصخب الرقمي، وبين ضجيج الفيديوهات الساخرة والمقاطع الراقصة والتحديات السطحية، برز أخيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي «ترند» غير معتاد، اسمه «المحتوى الهادف».

آلاف التغريدات والتعليقات تساءلت: هل يمكن أن ينافس المحتوى الجاد موجات الترفيه الخفيف التي تجذب الجمهور؟ وهل ثمة أمل أن يجد «الهادف» مرفأ آمناً وسط بحر اللهو الإلكتروني؟

جمهور واسع.. لكن ماذا يشاهد؟

عجيب أمر عالمنا العربي! يستهلك الإنترنت بأرقام تكاد تكون بالنسبة لأعداد سكانه أكبر من مناطق أخرى في العالم بكثير، لكن وللأسف نتائج هذا الاستهلاك نوعياً ليست لمحتوى يبني، أو يعلم، أو يفيد إجمالاً!

عالمنا العربي به نحو 348 مليون مستخدم للإنترنت (70% من السكان)، ومن بينهم أكثر من 228 مليون مستخدم نشط لوسائل التواصل الاجتماعي؛ أي أن نصف سكان المنطقة تقريبًا يقضون جزءًا من يومهم في متابعة المحتوى الرقمي.

لكن المعضلة الحقيقية تكمن في نوعية هذا المحتوى، فدراسة حديثة بينت أن 68% من طلاب الجامعات العربية يستخدمون وسائل التواصل لأكثر من 60 ساعة أسبوعيًا، فيما يذهب 95% من هذا الاستخدام للترفيه لا للتعلم أو التثقيف.

أي أن الساعات الطويلة التي يقضيها شباب الأمة العربية على المنصات تُستنزف في المقاطع الخفيفة، بينما المحتوى الجاد يعيش على الهامش.

العجيب أن يحدث هذا في منطقة يدين غالبية سكانها بدين لا يُنظر إلى المحتوى الهادف على أنه ترف ثقافي، بل مسؤولية شرعية، فالكلمة أمانة، والإعلام وسيلة للتأثير، قال تعالى: (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق: 18)، وفي الحديث الصحيح: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا».

دين يعتبر الاستثمار في بناء محتوى نافع إحدى صور الجهاد المعاصر؛ جهاد الكلمة والفكرة، الذي يواجه تيارات اللهو والسطحية بتقديم البديل المضيء.

«تيك توك» ساحة الفرصة

منصات التواصل ليست سواء، فرغم شيوع الاعتقاد أن جميعها تضخ الترفيه، فإن الأرقام تكشف تمايزًا، فمعدلات التفاعل العضوي (إعجابات، تعليقات، عدد المتابعين) على «تيك توك» تصل إلى 2.5%؛ أي أعلى بـ5 مرات من «إنستغرام»، و10 مرات من «فيسبوك» و«تويتر»؛ هذا يعني أن المحتوى إذا صيغ باحترافية على هذه المنصة يمكنه أن يحقق وصولًا وتأثيرًا استثنائيًا، حتى لو كان جادًا.

المفارقة المؤلمة أن اللغة العربية، رغم مكانتها الحضارية وعدد الناطقين بها، لا تتجاوز حصتها من المحتوى الرقمي العالمي 1% فقط، فيما تستأثر الإنجليزية وحدها بـ58%!

والنتيجة: الشاب العربي يستهلك غالبًا محتوى أجنبيًا أو مترجمًا، بينما يفتقر إلى محتوى من بيئته يعكس قضاياه وقيمه.

هذا النقص الفادح يجعل الحديث عن المحتوى الهادف ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة ملحّة لحماية الهوية الثقافية والوعي الجمعي.

خبراء الإعلام والتربويون يؤكدون أن غياب المحتوى الهادف لا يعني فقط فقرًا معرفيًا، بل يفتح الباب أمام تيارات فكرية وقيمية قد لا تنسجم مع بيئتنا العربية والإسلامية، ويرون أن الشاب الذي يقضي يومه بين المقاطع السطحية قد يخرج بوعي هشّ، عاجز عن قراءة الواقع أو مواجهة تحدياته؛ وهنا تكمن خطورة أن تتحول وسائل التواصل من أداة للتواصل والمعرفة إلى ساحة لصناعة فراغ حضاري.

لكن الصورة ليست قاتمة بالكامل، ففي مقابل ذلك، نجح بعض صنّاع المحتوى الهادف في إثبات وجودهم، من مقاطع قصيرة تقدّم مهارات حياتية، إلى برامج تطرح قضايا الأسرة والمجتمع بلغة شبابية، وصولًا إلى مبادرات تعليمية استقطبت ملايين المشاهدات.

وهنا يتجلى ما أكده الخبراء من أن الجمهور لا يرفض الجاد الهادف لمجرد الرفض بطبيعته، بل يرفض الأسلوب الممل في تقديمه.

ما الذي ينقصنا إذن؟

الأمر يحتاج إلى معادلة دقيقة: لغة بصرية جذابة + مضمون ثري + مصداقية، إضافة إلى محتوى يعكس اهتمامات الجمهور المستهدف، ويشاركه همومه، ويقدَّم له بلمسة فنية تحترم ذائقته، ولا يكفي أن يكون المحتوى هادفًا في فكرته، بل يجب أن يكون مشوّقًا في صياغته.

الخبيرة الإعلامية منى البسام تؤكد: نحن بحاجة إلى تدريب جيل من صناع المحتوى يجمع بين مهارة الحكي البصري والفهم العميق للقضايا المجتمعية، لا يكفي أن ننتقد الترفيه، بل علينا أن نقدّم البديل المُلهم.

أيضاً يعلق خبير الإعلام الرقمي د. محمد قاسم في تصريحات صحفية قائلًا: الجمهور الشاب لا يرفض الجدية، لكنه يريدها في قوالب عصرية سريعة وممتعة، من يملك القدرة على مزج القيمة بالمتعة هو من سيكسب السباق.

ويبقى السؤال: هل من أمل في استغلال هذا الوسيط استغلالاً يعود بالنفع على أمتنا، ويحل فيه المحتوى الهادف محل ما عداه؟

الجواب: نعم، فالمحتوى الهادف قادر أن يجد مكانه وسط ضجيج المنصات، إذا تحالف الفكر مع الفن، والرسالة مع الأسلوب، ونحن أمام سباق لا ينتهي، لكن الفائز فيه ليس من يصرخ أكثر، بل من يقدّم ما يبقى أثره في وعي الأجيال.


اقرأ أيضاً:

«تيك توك» يغتال أطفالك

تجارب عربية وعالمية في التصدّي لـ«التيك توك» الهابط

الرابط المختصر :

تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة