اللغة العربية.. شعار وهُوية المسلمين

تعدُّ اللغة
خصيصة من الخصائص التي تميز بها الإنسان عن غيره من المخلوقات، فهي وعاء لثقافته،
ومستودع لخبراته وتجاربه، وقد دأبت كل أمة على الاعتزاز بلغتها؛ لما تمثله من قدرة
على تشكيل شخصيتها، وتحديد خصوصياتها، ورسم خريطة تصوراتها ومعتقداتها، وأفكارها
وقيمها، بل جميع جوانب نشاطها الإنساني، وصار معلومًا أن وجود الأمة مرتبط ببقاء
لغتها.
وتعدُّ اللغة
العربية من أعرق اللغات الإنسانية، وأعذبها لسانًا، وأوضحها وأقواها، وهي الوحيدة
بين اللغات الحية التي صورت أطوار مجتمعاتها، قديمًا وحديثًا، بدقة بالغة وتعبير
راقٍ وإبداع فني فائق حتى أطلقوا عليها «اللغة الشاعرة».. وقد شرّفها الله تعالى
بربطها بالدين الخاتم؛ إذ تنزّل بها القرآن الكريم، وزاد من شرفها أنها كانت لغة
النبي صلى الله عليه وسلم، أفصح العرب لسانًا، وأوضحهم بيانًا، وأعذبهم نطقًا.
لغة
القرآن الكريم
لمّا كانت
العربية هي أفصح اللغات وأنضجها وأكثرها قدرة على وصف المشاعر وإيصال المعاني؛
فلذلك جعلها الله عز وجل لغة وحيه المنزّل على رسوله الأمين محمد صلى الله عليه
وسلم؛ يقول تعالى: (إنَّا
أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (يوسف: 2)،
ويقول: (وَكَذَلِكَ
أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) (طه: 113)، ويقول: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي
عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الزمر: 28).. إلخ الآيات التي تؤكد شرف
هذه اللغة، وفضلها على لغات الأمم جميعًا.
ومن يطالع تراجم
معاني القرآن، على اختلاف اللغات والمترجمين، لا يجد الإعجاز القرآني، بفروعه
المتعددة، كما يجدها إذا قرأ القرآن بلغته الأصلية ومعينه الصافي؛ وذلك لما تتميز
به هذه اللغة من كثرة المفردات والاشتقاقات، واحتوائها على كثير من المترادفات
والألفاظ المشتركة، وأبنيتها المختلفة، ومضامينها المتعددة الناتجة عن خصيصة
البناء في القواعد والإعراب.
ويلخص ابن القيم
هذا المعنى بقوله: «وإنّما يعرف فضل القرآن مَنْ عرف كلام العرب، فعرف علم اللغة
وعلم العربية، وعلم البيان، ونظر في أشعار العرب وخطبها ومقاولاتها في مواطن
افتخارها، ورسائلها».
وعاء
الشريعة
لا شك أن اللغة
العربية وعاء الشريعة وأداة رئيسة للتفقه في الدين؛ فلا يمكن لمسلم أن يستوعب علوم
شريعته، إلا إذا كان ذا حظ ولو بسيط من علوم اللغة، يضمن له حسن القراءة والكتابة
والتحدث، وسلامة اللسان من الخطأ، والفهم السليم لنصوص الوحي ومقاصد الشريعة.
يقول ابن تيمية رحمه
الله: «إن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب؛ لأن فهم الكتاب والسُّنة
فرض، ولا يفهم إلا باللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب».
والسلف والخلف
متفقون على أنها وعاء لمضامين الشريعة كافة؛ عقيدة وعبادة، ومعاملة وأخلاقًا،
وعلمًا وثقافة، من أجل ذلك اُعتُبر تعلُّمها واجبًا على المسلمين، باعتبارها
متطلبًا عقديًّا ورسالة سامية، وقد روي عن عمر رضي الله عنه: «تعلموا العربية
فإنها من دينكم»، فهي إذًا جزء من الإسلام، وإذا كان لا يصح قراءة القرآن إلا بها،
فكذلك الصلاة التي يعد القرآن ركنًا من أركانها، ومعلوم أنها؛ أي الصلاة، ركن من
أركان الإسلام، يقول أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في ذلك: «إن هذه الشريعة
المباركة عربية، فمن أراد تفهمها فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلب
فهمها من غير هذه الجهة».
شعار
الإسلام
وقد أضفى
الإسلام نوعًا من التقديس على اللغة العربية؛ لغة القرآن، فصار اللسان العربي
شعارًا خاصًّا بالإسلام والمسلمين، يقول ابن تيمية رحمه الله: «اللسان العربي شعار
الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون».
لقد سارت اللغة
العربية مع المدّ الإسلامي المنطلق من شبه جزيرة العرب، فابتلعت الكثير من اللغات
التي اختارت شعوبها الدين الجديد، واستوعبت، من ثم، تراث هذه الأمم، وقدّمته
لذيذًا مستساغًا في شتى مجالات العلوم ومناحي المعرفة، وكان طبيعيًّا أن يسعى
المسلمون الجدد من غير العرب إلى تعلم العربية، وإتقانها، واستنباط قواعدها؛ إذ
عليها مدار أحكام القرآن والسُّنة النبوية المشرّفة.
وتتأكد الحاجة
للغة العربية عند النطق بالشهادة؛ إذ لا يُستغنى عنها بلغة أخرى، وتكون بهذا هي
البوابة أو المدخل الرئيس إلى الإسلام، وعنوانه، ولسان حاله، وجهدُ المقلِّ لمن
اعتنق الدين الخاتم أن يعلم شيئًا من العربية ليمارس بها عباداته، يقول الشافعي رحمه
الله: «فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد أن لا إله إلا
الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه
من التكبير، ومن التسبيح، والتشهد.. وغير ذلك».
تعزيز
الهوية والانتماء
لا مراء في أن
اللغة هي الفكر، وهي الهوية، وهي الماضي والحاضر والمستقبل، ولغتنا العربية، على
وجه الخصوص، تمثل المضمون الروحي لشخصيتنا الإسلامية، وأساس تراثنا، ومستودع رسالة
السماء الخالدة، فلا تنفصل عن الإسلام؛ إذ تحلُّ أينما حلّ، كأداة تواصل روحي
وبدني وفكري بين الإسلام والأمم الأخرى، يقول الرافعي رحمه الله: «إن هذه العربية
لغة دين قائم على أصل خالد هو القرآن الكريم، وقد أجمع الأولون والآخرون على
إعجازه بفصاحته؛ إلا من لا حفل به من زنديق يتجاهل، أو جاهل يتزندق».
فالعربية ليست
مجرد وسيلة تعبير، بل هي جزء أصيل من هُوية المسلمين، ووعاء للثقافة والدين، وجسر
يربط المسلم بماضيه وحاضره ومستقبله، وهي تحتل موقعًا فريدًا في وجدانه، أيًّا كان
موطنه أو جنسيته.
وفي عصر العولمة
والانفتاح الثقافي، صارت العربية تواجه تحديات شتى، على رأسها هيمنة اللغات
الأجنبية، وضعف استخدامها في بعض المجتمعات الإسلامية جرّاء استخدام اللهجات
الخاصة والمفردات العامية؛ فوجب على المسلمين تعزيز مكانة لغة القرآن، عبر مؤسسات
التعليم والإعلام والمؤسسات الدينية وغيرها، وعليهم حمايتها من أخطار العولمة وما
يستجدّ من أخطار، وهذا بات فرضًا كما قرر العلماء.