الهجرة النبوية.. دروس البدايات العظيمة في ظل واقع غزة الأليم

تأتي ذكرى الهجرة النبوية الشريفة كل عام لتُجدد في الأمة روح الصبر والعزيمة والثقة بنصر الله، فهي ليست مجرد انتقالٍ من مكة إلى المدينة، بل هي نقطة تحوّل في مسار الدعوة الإسلامية، ومحطة مليئة بالدروس التي تحتاجها أمتنا في كل مرحلة ابتلاء، لا سيما أهلنا الصامدين في غزة، الذين يعيشون تجربة نكبة متكررة، وظروف حصار وتهجير وقتل، شبيهة بما واجهه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في مكة قبل الهجرة.

محطة انتصار بعد معاناة

لقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة اضطهادًا شديدًا، حيث قُتل بعضهم، وسُجن آخرون، وهُجّروا قسرًا من ديارهم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغادر مكة: «والله إنك لأحبُّ بلاد الله إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت» (رواه الترمذي).

وهكذا غزة، كم في قلوب أهلها من حبٍّ لأرضهم رغم ما حلّ بها من دمارٍ وخراب! كم من أمّ ودّعت أبناءها! وكم من طفل رأى بيته يهدم فوق رأسه! وكأن التاريخ يعيد نفسه، ولكن بثوبٍ فلسطينيٍّ مقاوم.

من مكة إلى غزة.. وحدة الابتلاء وثبات المبدأ

في مكة، تعرض المسلمون لكل صنوف الإيذاء، لكنهم لم يفرّطوا في دينهم، ولم يبدّلوا مواقفهم، وكذلك أهل غزة، رغم الجراح، لم يهنوا ولم يضعفوا، بل ظلّوا متمسكين بثوابتهم، كما قال تعالى: (فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران: 146).

فالهجرة كانت ضرورة لحفظ الدين، لا هروبًا من الواقع، وكذلك فإن صمود غزة ليس مقامرة خاسرة، بل هو ثبات على الحقّ، وانتظار للفرج الموعود، وما النصر إلا صبر ساعة.

التخطيط مع التوكل.. لا تناقض

الهجرة النبوية لم تكن عشوائية، بل كانت بتخطيط دقيق: اختيار الرفيق (أبو بكر)، التوقيت المناسب (الليل)، المكان المؤقت (غار ثور)، التغطية الأمنية (عبدالله بن أبي بكر، والمطعمون من آل أبي بكر)، كلها مؤشرات على الجمع بين التوكل والأخذ بالأسباب.

وهذا ما يجب أن تعيه الأمة اليوم، لا سيما في غزة؛ فالتوكل على الله لا يعني الاستسلام، بل يوجب الإعداد، كما قال الله: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال: 60).

فأهل غزة يخططون، يحفرون الأنفاق، يصنعون ما أمكنهم من سلاح، يواجهون الحصار بالتقشف والإبداع، وهذا عين ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة.

الأنصار.. دروس في الإيواء والنصرة

من أعظم دروس الهجرة موقف الأنصار، الذين آووا ونصروا، وآثروا على أنفسهم، فاستحقوا الثناء الإلهي: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ) (الحشر: 9).

فأين اليوم أنصار غزة؟ من الذي يفتح لهم الأبواب كما فُتحت للمهاجرين؟ من الذي يقدّم النصرة الحقيقية بدل التصريحات الجوفاء؟!

نحن بحاجة إلى أنصار العصر، لا بالكلام بل بالفعل؛ دعمًا وإيواءً ومواقف سياسية شجاعة تُكسر بها قيود الحصار.

لابد من الهجرة من أجل التمكين |  Mugtama
لابد من الهجرة من أجل التمكين | Mugtama
مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة 13 عاماً يدعو...
mugtama.com
×

لا هجرة بعد الفتح.. ولكن جهاد ونية

قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية» (رواه البخاري).

وهذا الحديث وإن دلّ على أن دار الإسلام قد استُقرّت، إلا أنه يفتح بابًا من الفهم الراقي؛ أن الهجرة إن انتهت كشكل، فمعناها باقٍ في الجهاد، وفي النية الصالحة، وفي الثبات على الدين.

وغزة اليوم هي ساحة الجهاد والنية الصادقة، من لم يستطع أن يهاجر إليها، فليهاجر بنيّته، وبموقفه، وبدعمه، وبقلمه، وبمقاطعة العدو، وبكشف جرائمه.

والهجرة كانت بوابة بناء الدولة الإسلامية، وانطلاقة مشروع التمكين، رغم بدايتها المؤلمة، واليوم أهل غزة بدمائهم يصنعون فجر الأمة، ولربما يرون في موت أطفالهم ونكباتهم أوجاعًا بلا أمل، ولكن الله يعدهم –كما وعد نبيه– بنصرٍ قريب: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51).

غزة.. عنوان هجرة العصر

كما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرّمة، مُجبرًا لا راغبًا، كذلك يُهجّر اليوم أهل غزة قسرًا، لكنهم يحملون قلوبًا لا تهاجر، وضمائر لا تُغادر، وأرواحًا معلّقة بالمسجد الأقصى الذي وُصل بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء قبل الهجرة، فكان التهيئة الروحية للمرحلة القادمة.

لذلك، فإن من أعظم دروس الهجرة ألا نيأس، وأن نستبشر، فبعد كل غار ثور يوجد مدينة تنتظرنا، وبعد كل صبر، نصرٌ وتمكين.


تابعنا

الرئيسية

مرئيات

العدد

ملفات خاصة

مدونة