تركيا و«إسرائيل» في سورية.. صدام أم تفاهم؟

مع مرور الوقت بعد تغير النظام في سورية،
تحولت الاعتداءات «الإسرائيلية» على سورية من هجمات لتقويض قدرات الدولة إلى ما يشبه
الرسائل لأطراف أخرى تأتي في مقدمتها تركيا، لتنذر بتحول التوتر بين الأخيرة ودولة
الاحتلال إلى صدام مباشر.
تغيرت البيئة الإستراتيجية بشكل كبير بالنسبة
لدولة الاحتلال الصهيوني ما بعد 7 أكتوبر 2023م؛ فقد انهارت منظومتها الأمنية وأعلنت
إفلاسها في مواجهة المقاومة الفلسطينية، فاتجهت بشكل واضح لتقويض كل وأيِّ تهديد محتمل
ولو على المدى البعيد جداً، تحت شعار «إعادة رسم الخرائط في الشرق الأوسط».
في الخصوصية السورية، انهار النموذج السابق
الذي كانت تتعامل معه دولة الاحتلال بضربات واغتيالات بين الحين والآخر، وأتت قيادة
جديدة لا تعرف عنها الكثير ولم تواجهها سابقاً، فليس هناك إذن قواعد اشتباك معروفة
بينهما، فضلاً عن أن التطورات وضعت كلاً من تركيا ودولة الاحتلال على الحدود المرنة
لبعضهما بشكل عملي وإن لم يكن رسمياً.
لقد عمّق سقوط نظام الأسد ومجيء الإدارة السورية
الجديدة بقيادة أحمد الشرع تعارض المصالح بشكل كبير بين تركيا ودولة الاحتلال، فالأخيرة
تسعى لسورية ضعيفة وممزقة، وترجّح سيناريوهات التقسيم والتجزئة على أسس عرقية ومذهبية
ومناطقية، وتنظر بعين الريبة للقيادات الجديدة لسورية، بل وتحرض عليهم كـ«إرهابيين»،
وتدّعي حماية بعض الأقليات وتدعو للتعاون معها ضد القيادة السورية وتركيا معاً.
في المقابل، ترى أنقرة في استقرار دمشق ووحدة
أراضيها مصلحة عليا لها، بعيداً حتى عن المصالح الاقتصادية والتجارية الكثيرة المترتبة
على تغير النظام وكذلك مسألة اللاجئين، الأهم أنها تنظر بإيجابية للمرحلة الانتقالية
والإدارة الجديدة وتسعى بكل جهدها لحشد الدعم لها ورفع العقوبات عنها وكذلك لفتح آفاق
العلاقات بينها وبين مختلف الدول.
الاحتلال الصهيوني ينظر لتركيا على أنها أحد أهم موانع إستراتيجيتها في
سورية ما يحتم ضرورة العمل ضدها
ومن بين الأهم بالنسبة لأنقرة أنها تنظر بعين
الريبة والاتهام لقوات سورية الديمقراطية الكردية لارتباطاتها بحزب العمال الكردستاني،
وأعلنت مراراً استعدادها للتدخل العسكري ضدها في حال سعت لمشاريع انفصالية، بينما تتحدث
حكومة الاحتلال عنها بمنطق الحليف الذي ينبغي التعاون معه ضد تركيا، وحصلت اتصالات
بينهما خلال وبعد عملية «ردع العدوان».
بنتيجة كل ما سبق، تنظر دولة الاحتلال لتركيا
على أنها أحد أهم موانع إستراتيجيتها في سورية، ما يترتب عليه ضرورة العمل ضدها.
مؤشرات الصدام
منذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الأسد، بل
خلال عملية «ردع العدوان»، بدأت دولة الاحتلال سيناريو تقويض قدرات الدولة السورية
وتحطيم أي أوراق قوة في يدها، بقصف الأسلحة الثقيلة والقواعد العسكرية ومراكز البحوث،
إضافة لتوغلها داخل الأراضي السورية بعد إعلانها انهيار اتفاق فض الاشتباك لعام
1974م.
في مواجهة هذا العدوان المتواصل، أعلنت تركيا
مراراً أن «إسرائيل» باتت المهدد الأول والأكبر لأمن واستقرار المنطقة، داعية إياها
لوقف اعتداءاتها على سورية، ثم تطور الأمر وصولاً لتصريحات مباشرة من الرئيس أردوغان
بأن من يستهدف استقرار سورية سيجدنا في مواجهته، في إشارة لتغير محتمل في موقف أنقرة.
أتت تلك التصريحات بعد الغارات «الإسرائيلية»
التي استهدفت عدة مواقع عسكرية سورية من بينها قاعدة ومطار «تيفور» قرب حمص، فضلاً
عن مطار حماة وعدة مواقع قرب دمشق، وهي الغارات الكثيفة التي أتت بعد تقارير تحدثت
عن طلب سوري ورغبة تركية في تواجد عسكري تركي في بعض المواقع العسكرية، من بينها قاعدة
«تيفور»، وتقارير أخرى ذكرت بأن وفوداً فنية تركية زارت المكان لبحث المتطلبات.
ولذلك، فقد قرئت الغارات هذه المرة بشكل مختلف؛
أي بما يتجاوز فكرة تقويض إمكانات الدولة السورية، لتتضمن كذلك رسائل مباشرة لتركيا
بالعدول عن فكرة التواجد العسكري في سورية، لا سيما وأن وزراء في حكومة الاحتلال حذروا
الشرع من فتح الأراضي السورية لأطراف يمكن أن تستهدف «إسرائيل»، على حد تعبيرهم، وكان
المقصود في المقام الأول أنقرة.
ولعل كل ذلك يشير إلى تبدل جذري في نظرة كل
من تركيا و«إسرائيل» لبعضهما بعد التغير الكبير في سورية، فتركيا كانت قد أدانت العدوان
على غزة وسمّت «إسرائيل دولة إرهاب» وخفضت العلاقات معها، لكن التطورات في سورية جعلتها
تنظر لها على أنها مهدد مباشر لها، في الجانب «الإسرائيلي»، حذرت لجنة «ناجل» حكومة
الاحتلال من صدام عسكري محتمل مع تركيا في السنوات المقبلة، وفي الجانب التركي، لوح
أردوغان بإمكانية استخدام القوة لاحقاً لدعم الفلسطينيين، وهو ما رد عليه «الإسرائيليون»
بتهديده بمصير صدام حسين.
فهل يطال تغير العقيدة الأمنية لدولة الاحتلال
تركيا ويدفعها لاستهدافها بشكل مباشر؟
دوافع التفاهم
رغم الأسباب التي قد تدفع نحو الصدام بين
تركيا والكيان الصهيوني والمؤشرات العديدة على زيادة منسوب التوتر بينهما في الآونة
الأخيرة، فإن هناك عوائق كثيرة تعمل ككوابح لفكرة الصدام المباشر بينهما.
أولى وكبرى هذه العقبات الكلفة الكبيرة على
الطرفين لأي مواجهة عسكرية مباشرة بين الجانبين، فهما يملكان جيشين كبيرين هما الأقوى
بين دول المنطقة؛ ما يجعل تبعات المواجهة العسكرية بينهما كبيرة وربما كارثية، وهو
ما يدفع الجانبين للتمهل كثيراً في هذا المسار، ويمكن لأي متابع جيد للإعلام العبري
أن يلحظ حضور هذا المعنى بقوة هناك.
كما أن كلام المحللين السياسيين في الكيان
يزخر بالفوارق بين إيران –التي كانت القوى المعادية المتواجدة في سورية– وتركيا، ليس
فقط من باب القوة العسكرية، ولكن كذلك بنية الدلولة وعلاقاتها الخارجية ولا سيما مع
الولايات المتحدة الأمريكية ونظرتها للعلاقات مع «إسرائيل» وتاريخ العلاقات معها، فضلاً
عن عضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
رغم الأسباب القوية التي قد تدفع نحو الصدام المباشر بين تركيا و«إسرائيل»
فإن هناك كوابح تمنع هذا الصدام
وعضوية «الناتو» تحديداً عامل كابح أساسي
للمواجهة المفترضة بين الجانبين، فالولايات المتحدة لن تريد صداماً مباشراً بين اثنين
من حلفائها في المنطقة، ليس وهي تسعى لتهدئة الأوضاع فيها للتركيز أكثر على المنافسة
مع الصين، كان ذلك حاضراً خلال السنوات الأخيرة، وقد تعزز أكثر مع الفرص التي لاحت
لأنقرة بعد التغيير الجذري في دمشق وزيادة أهميتها لواشنطن في سورية ومجمل قضايا المنطقة
عموماً، ومما يدلل على ذلك تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لدى استقباله رئيس
الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض التي تضمنت نظرة إيجابية لتركيا
وأردوغان وعرضه على نتنياهو التوسط لحل أي مشكلة مع تركيا، بل واشتراطه عليه أن يكون
عقلانياً.
من جهتها، أكدت تركيا أنها لا تريد صداماً
مباشراً مع «إسرائيل»، على لسان وزير خارجيتها هاكان فيدان، لكن ذلك لا يعني أنها ستخضع
لمنطق التهديد والرسائل الساخنة منها، فتركيا تنتهج إستراتيجية تعتمد عدة مسارات، أولها
التهدئة وتأكيد الرغبة في عدم الصدام، وثانيها التعويل على دور أمريكي في الضغط على
«إسرائيل» وكبح توجهاتها العدوانية، بينما الثالث يتمثل في فرض وقائع على الأرض يصعب
العودة عنها وتحديها على المدى البعيد
بينما المسار الرابع يكمن في محاولة نسج تفاهمات
مع «إسرائيل» لتجنب الصدام المباشر في سورية، على غرار التفاهمات التي كانت موجودة
بين مختلف الأطراف التي تتواجد قواتها على الأراضي السورية، وخصوصاً بين تركيا وإيران
وروسيا، وقد تحدثت تقارير إعلامية عن عقد حوار بين الجانبين لهذا الهدف لم يصل لنتائج
ملموسة بعد.
ولذلك، تبقى العوامل الموترة للعلاقات الثنائية
حاضرة، وفي مقدمتها السياسات العدوانية لدولة الاحتلال في سورية والمنطقة ومن ضمنها
تركيا بطبيعة الحال، ما يبقي احتمالات الصدام على المدى البعيد حاضرة، وإن كانت الآن
ضعيفة جداً، بغض النظر عن شكل الصدام وأهدافه ومداه ونتائجه.