حِرصُ النبي ﷺ على هداية أهل الكتاب
كان النبي صلى
الله عليه وسلم حريصاً على أن تصل هداية الله عز وجل إلى كل الخلق، مَن آمن بنبي
سابق، أو مَن لم يؤمن بعد، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم توجه بدعوته إلى أهل
الكتاب لإيمانهم بوجود الله تعالى وإيمانهم برسل سابقين، واتخذ مع أهل الكتاب
أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالحسنى وتعامل معهم بكل وسيلة للتقارب
كالرحمة والمودة والزيارة وتبادل الهدايا، إلا أن حرص النبي صلى الله عليه وسلم
على هداية أهل الكتاب قد نتج عنه ما يلي:
أولاً: شخصيات آمنت بالله ورسوله من أهل الكتاب منذ الوهلة الأولى:
معرفة بعض أهل
الكتاب بنبي مبعوث آخر الزمان مع إيضاح صفاته لديهم وسلامة فطرتهم كان سبباً في
تعجيل إيمانهم به واستجابتهم للهداية الربانية التي جاء بها صلى الله عليه وسلم.
منهم النجاشي،
ملك الحبشة، الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه يوم أن تعرض أصحابه للأذى
وأمرهم بالهجرة إلى أرضه: «إن بها ملكاً لا يظلم الناس ببلاده في أرض صدق فتحرزوا
عنده يأتيكم الله عز وجل بفرج منه، ويجعل لي ولكم مخرجاً»، فهاجر رجال من أصحابه
إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفروا إلى الله عز وجل بدينهم(1).
إلا أن المسلمين
لما هاجروا إلى الحبشة، واتخذ المشركون حيلة لإعادتهم إلى مكة، حيث اتهموا
المسلمين بأنهم يسيؤون إلى سيدنا عيسى عليه السلام وأمه، فلم يحكم النجاشي على
المسلمين حتى يسمع منهم، فجاء إليه سيدنا جعفر بن أبي طالب فقرأ عليه من القرآن
الكريم ما دعاه إلى الإيمان بالله ورسوله.
فقال قال
النجاشي: مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي نجد في
الإنجيل، وأنه الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم، انزلوا حيث شئتم، والله لولا ما
أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه(2).
فقد وصف النبي
صلى الله عليه وسلم النجاشي بخصال أعلت من قدر النبي صلى الله عليه وسلم عند
النجاشي، ولما سمع من سيدنا جعفر ما وافق ما علِمه عن النبي صلى الله عليه وسلم،
وتَوافق مع تعاليم دينه أسلم مباشرة دون تردد، وكان ذلك نتيجة لما حمّله النبي صلى
الله عليه وسلم من تعاليم عن الإسلام إلى أصحابه يدعون الناس إليها في أي مكان
وُجدوا أو إلى أي مكان رحلوا.
وإذا كان
النجاشي نصرانياً، فقد أسلم من أهل الكتاب من اليهود من الوهلة الأولى بعدما عرف النبي
صلى الله عليه وسلم عبدالله بن سلام، ومن النصارى أيضاً عداس، وتميم الداري، فهذا
يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يجد مسلكاً يستطيع من خلاله أن تصل
رسالته إلى أحد من أهل الكتاب إلا فعلها، سواء كان بنفسه أو عن طريق غيره.
ثانياً: شخصيات تأخر إيمانها بالله ورسوله من أهل الكتاب:
كان لمبعث النبي
صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان صدى لدى أهل الكتاب، فكان الأحياء منهم ينتظرون
لحظة مبعثه حتى يتابعوه، ومَن خشي على نفسه الفراق أخبر غيره لينال خير إيمانه
برسول آخر الزمان، فكان ممن أُخبِرَ بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وتأخر إسلامه
سلمان الفارسي الذي كان مجوسياً ثم تحول للنصرانية، ثم آمن بالنبي صلى الله عليه
وسلم بعد الهجرة، فقد كان يعبد النار مع أبيه ثم اتجه إلى كنيسة لعله يجد فيها من
الدين خير مما فيه فتعلق ببعض أفرادها وانتقل معه إلى العراق.
وأخذ ينتقل من
عالم دين نصراني إلى آخر حتى كان عند آخر واحد منهم، فقال لسيدنا سلمان، قد أظلك
زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين بينهما
نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن
استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل(3).
إلا أن سيدنا
سلمان انتقل بعد جهد جهيد إلى المدينة المنورة حيث المكان الموصوف، غير أنه ما آمن
حتى اختبر علامات النبوة في النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: خرجتُ حتّى جئتُ
إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بقباء، فدخلتُ عليه ومعه نفر من أصحابه فقلتُ:
إنّه بلغني أنّك ليس بيدك شيء، وأنّ معك أصحابًا لك، وأنّكم أهل حاجة وغُرْبة، وقد
كان عندي شيء وضعتُه للصدقة، فلمّا ذُكر لي مكانُكم رأيتُكم أحقّ الناس به فجئتكم
به، ثمّ وضعتُه له.
فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: «كُلوا»، وأمسك هو، قال: قلتُ في نفسي: هذه والله واحدة.
ثمّ رجعتُ
وتحوّل النبي صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة وجمعتُ شيئًا ثمّ جئتُه فسلّمتُ
عليه وقلتُ له: إني قد رأيتُك لا تأكل الصدقة وقد كان عندي شيء أُحبّ أن أكرمك به
من هديّة أهديتُها كرامة لك ليست بصدقة، فأكل وأكل أصحابه، قال: قلتُ في نفسي: هذه
أخرى.
قال: ثمّ رجعتُ
فمكثتُ ما شاء الله ثمّ أتيتُه فوجدتُه في بَقيع الغَرقد قد تبع جنازةً وحوله
أصحابه وعليه شَمْلتانِ مؤتزراً بواحدة مُرْتَديًا بالأخْرى، قال: فسلّمتُ عليه
ثمّ عدلتُ لأنظر في ظهره فعرف أني أريد ذلك وأسْتَثْبِتُهُ، قال: فألقى بردائه عن
ظهره فنظرتُ إلى خاتم النبوّة كما وصف لي صاحبي، قال: فأكببتُ عليه أُقبّلُ الخاتم
من ظهره وأبكي، قال: «تحول عنك»، فتحولتُ فجلستُ بين يديه فحدّثتُه حديثي فأعجبه
ذلك، وأحبّ أن يسمعه أصحابه، ثمّ أسلمتُ(4).
فقد تأخر إسلام
سلمان الفارسي لطبيعة عمله عبداً فلا يمكن له ترك عمله، كما أنه أراد اختبار
علامات النبوة ليتحقق من صحة الرسالة لما لاقاه من فساد الأديان السابقة، وإذا كان
سيدنا سلمان كان نصرانياً، فقد تأخر إسلام شخصيات يهودية ككعب الأحبار، ووهب ابن
منبه، وجويرية بنت الحارث.
بهذا، نجد
اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم البالغ لكل مَن قدم عليه من أهل الكتاب ليبين لهم
صدق ما علموه وتحقيق ما وُصف لهم من صفاته صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: شخصيات تيقنت من نبوته إلا أنهم ماتوا على كفرهم:
تعامل النبي صلى
الله عليه وسلم مع أهل الكتاب معاملة حسنة لإيمانهم بالله تعالى واعترافهم بأنبياء
أرسلهم الله تعالى لعباده، إلا أن بعض أهل الكتاب قابل حسن المعاملة بالإساءة،
وقابل القرب بالبعد والرحمة بالقسوة والمودة بالعداوة، كان من بين هؤلاء حيي بن
أخطب، رغم اعترافه بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم.
فعن صفية بنت
حيي بن أخطب أنها قالت: كنت أحَب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط
مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، قالت: فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة،
ونزل قباء، في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي، حيي بن أخطب، وعمي أبو ياسر بن
أخطب.
قالت: فلم يرجعا
حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما
كما كنت أصنع، فو الله ما التفت إليَّ واحد منهما، مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب:
أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟
قال: عداوته والله ما بقيت(5).
ومات على كفره
وعداوته، فقد كان من يهود بني قريظة الذين حكم فيهم سيدنا سعد بن معاذ بقتل رجالهم،
فلما وقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم ليُقتل قال له: أما والله ما لمت نفسي في
عداوتك، ولكنه مَن يَخذل الله، يُخذل، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، إنه لا
بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه(6).
فهذا رجل امتلأ
صدره حقداً وعداوة، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هدايته إلى
الله تعالى، فقد دعاه إلى الإسلام أكثر من مرة ونصحه مرات عدة، ولم يكن وحده من
اليهود؛ بل كان مثله كعب بن الأشراف، وكعب بن أسد القرظي، ومن النصارى أبو عامر
الراهب.
فقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية أهل الكتاب إلى منهج الله تعالى ليسعدوا في
دنياهم وينجوا في أخراهم، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ
إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ
مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ)
(المائدة: 66).