العنوان رفقًا بالشيخ القرضاوي
الكاتب عابدة المؤيد العظم
تاريخ النشر الثلاثاء 16-نوفمبر-1999
مشاهدات 5
نشر في العدد 1376
نشر في الصفحة 66

الثلاثاء 16-نوفمبر-1999
يقول جدي- على الطنطاوي يرحمه الله- «إذا مرض ولدك تأخذه إلى الطبيب، ولكن من أين أتى الطبيب بعلمه؟ أتى به من كتب الطب، فالمرجع هو كتب الطب، لماذا إذن لا تفتح أنت كتب الطب وتداوي ابنك؟ ستقول: لا أستطيع، لأن هذا يحتاج إلى فهم واختصاص.
ثم وبعد التشخيص ووصف الدواء، هل تسأل الطبيب: من أين جئت بهذا؟ هل تسأله ما دليلك على أن ابني مريض بالمرض الفلاني؟».
إنك لا تفعل لأنك تثق بالطبيب وتوقن بأنه أعلم منك، وأنت تثق كذلك بكل صاحب مهنة متمكن ناجح من نجار وكهربائي وغيرهما، فتلجأ إليه وتطلب معونته، ولا تناقشه إذا وثقت من علمه وقدرته، هذا في أمور الدنيا، فكيف الأمر إذن في أمور الآخرة؟
يتابع جدي كلامه ليبين ذلك فيقول: «إن أصل التشريع الإسلامي هو الكتاب والسنة، ولا شك في ذلك «كما أن أصل الطب كتب الطب» ولكن الله أنزل الكتاب للناس جميعًا للجن والإنس، ولمن كان حاضرًا يوم نزل الوحي على النبي- صلى الله عليه وسلم-، ولمن سيولد فيما بعد إلى يوم القيامة.. والناس ليسوا على درجة واحدة من الفهم ومن معرفة العربية ومن الثقافة، ولذلك وجد علماء يفهمون ويفتون ويسمون مجتهدون، وقد كان هذا أيام الصحابة، فعندما انقتل النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى كان عدد المسلمين يزيد على مائة ألف، فهل تظنون أن كل هؤلاء الناس كانوا يرجعون إلى القرآن ويفتون لأنفسهم؟ لا.. أبدًا وإنما كان أغلبهم يستفتون، وكان عدد المفتين لا يزيد على المائة، مائة فقط مجتهدون من أصل مائة ألف، والباقون كلهم مقلدون..» «من حديثه الذي الذيع عام 1394هـ».
ونحن اليوم كذلك، لا نستطيع كلنا أن نفهم كل ما جاء في القرآن والسنة كما ينبغي، ولن نستطيع كلنا أن ندرك المستجدات ونفتي في أمرها، من أجل ذلك تخصص عدد قليل منا في علوم الدين وصرنا نلجأ إليهم، فنسألهم ونستفتيهم لكن دون أن نخوض معهم في التفاصيل إلا قليلًا، ودون أن نعرف كيف استنبط أحدهم الحكم، وكيف وصل إلى الفتوى، ولكن الذي يجب أن نعرفه أن العمل بالفتوى بعد التوصل إليها واجب إلزامي: «المجتهد يجب عليه أن يعلم بما أداه إليه اجتهاده، وهو بالنسبة إليه حكم الله تعالى، وعلى غير المجتهد أن يعمل بفتوى المجتهد، إذ ليس أمامه طريق آخر لمعرفة الحكم الشرعي سوى الاستفتاء.. وإنكار الأحكام الثابتة بالاجتهاد المبني على غلبة الظن هو معصية وفسق وظلم، لأن المجتهد بذل أقصى جهده لمعرفة الحق وبيان حكم الله تعالى: «الفقه الإسلامي وأدلته، ج1، ص 27».
وقد درج المسلمون من قديم على تقليد المجتهدين والاستسلام لهم، فإذا اتبع أحدهم المذهب الحنبلي، تقيد بأحكامه دون أن يسأل عن الدليل الذي أوصل الإمام أحمد إلى هذا الحكم، لأن هذا عمل الفقيه وإن هو إلا مقلد، ولا يهتم الناس اليوم بالإنكار على الفقهاء المتقدمين، بل هم يأخذون آراءهم كما هي وقد يتعصبون لها، ويتشبثون بها ولو قامت الحاجة عليهم، ولو وجدوا دليلًا أقوى يرجع قولًا لمذهب آخر.
وإليكم مثالًا بسيطًا طريفًا: جعل الحنفية مدة الحمل سنتين في مذهبهم وقد مر اليوم على نزول الإسلام أربعة عشر قرنًا، وتقدمت العلوم وتطور الطب وما سمعنا أن امرأة حملت أكثر من تسعة أشهر، ومع أن هذه الفتوى قد تكون خطيرة لأنها قد تجر إلي الشبهات، وقد تتخذ ذريعة للوقوع في الحرام، إلا أنها- ورغم ذلك- ما تزال مثبتة في الكتب، وما انتقصت هذه الفتوى من قدر مفتيها، ولا توالت الاعتراضات من الناس على الإمام أبي حنيفة كما حدث مع شيخنا القرضاوي وغيره من الميسرين، فهل هم مستهدفون؟!
فيا حبذا لو أنصف المعترضون العلماء الميسرين، وإن لم يقتنعوا بآرائهم، فتركوا الإنكار عليهم، ما داموا لا يفتون بشيء إلا وجاءوا عليه بدليل أو أدلة، وما أباحوا أمورًا إلا بشروط، ولا حكموا في قضية إلا بعد أن عرفوا ملابساتها، وإن أحدهم وهو الشيخ يوسف القرضاوي يؤكد وهو يدلي برأيه بأن هذا رأيه الشخصي، واجتهاده الفقهي، فيصدر فتواه بقوله: «أنا أرى..» مما يدل على أنه رؤية شخصية من عالم قرأ وتفقه ثم اجتهد فله أجر وربما أجران، وأحيانًا كان يطلعنا على رأي غيره ثم يبين لنا الدليل الذي جعله يخالفهم ويرى غير رأيهم، وللناس بعد ذلك أن يأخذوا بفتواه- إن ارتاحوا لها- أو يدعوها إلى غيرها.
أيها المسلمون.. عندما أرسل النبي- صلى الله عليه وسلم- رسوله إلى اليمن وكان- عليه الصلاة والسلام- حيًّا، وكانت الدعوة في أولها لم تكتمل تعاليمها ولم تستكمل، أباح لرسوله وهو معاذ بن جبل أن يجتهد برأيه، إذ اختبره فسأله: «بم تقضي بينهم؟، قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد- أي نصًّا فيه؟، قال: فبسنة رسوله، قال: فإن لم تجد؟، قال: أجتهد رأيي ولا آلو «أي لا أقصر في اجتهادي»، فأقره الرسول على ما قال، وحمد الله تعالى على ما وفقه إليه من الصواب» "الترمذي، وأبو داود، وأحمد".
وما قال له كيف تفتي وأنا بين أظهركم؟ وكيف تجتهد وتتجرأ على الله؟ فكيف بنا اليوم وقد توفي الرسول- صلى الله عليه وسلم- وما عاد لنا من نسأله إلا أولئك الفقهاء علماء الأمة، وقد فارقنا في الفترة الأخيرة عدد منهم، ولم يبق لنا إلا ثلة من المجتهدين الموثوقين ، فلنستفد من وجودهم بيننا، ولنسألهم بما يفيدنا، ولنترك الفتوى لهم قبل أن نطلبهم يومًا فلا نجدهم، وقد لا نجد لفترة طويلة بديلًا لهم، فقد فشا الجهل وارتفع العلم، فمن سنسألة يومًها؟ وما الذي سنفعله. عندها؟.
موضوعات متعلقة
مشاهدة الكل

عــود إلى التربيــة.. كلية الحقوق والشريعـة بين شريعة القرآن وشريعة الرومان
نشر في العدد 13
14
الثلاثاء 09-يونيو-1970
